يوميات الأخبار

على أمين.. مهندس الصحافة

محمد الشماع
محمد الشماع

«كان أسلوبه هو الكتابة التليغرافية السريعة.. وتنبأ بأن الصحف ستُنقل عبر وسائط إليكترونية.. تلك هى حياة رجل عاش المستقبل قبلنا!!»

كان الأستاذ على أمين توأم عملاق الصحافة المصرية والعربية مصطفى أمين، يمتلك قدرة غير عادية فى اختصار أى موضوع أو خبر صحفى إلى جملة أو بالكثير عدة جمل بسيطة واضحة ومفهومة للقارئ العادى، قارئ الصحيفة، بل وصلت قدرته إلى أنه يستطيع أن يختصر صفحة كاملة من صفحات الجريدة فى عمود واحد، ويستطيع القارئ بسهولة شديدة أن يستوعب ويفهم كل ما هو مكتوب فى هذه الصفحة. وهذه القدرة والكفاءة كان حريصاً على أن يتعلمها تلاميذه من الصحفيين.

وكان مهندس الصحافة على أمين بحكم دراسته العلمية باعتباره مهندساً، كان محدداً لا يحب الإطالة، وكان هدفه هو إيصال المعلومة للقارئ بأقصر الطرق، وهو بذلك كان سباقاً لعصره ويستشرف المستقبل فى كل من حوله، حتى إنه بعدما عاد للكتابة فى السبعينيات، كان يكتب مساحة تقترب من ثلث مساحة الصفحة الأولى أو أكثر تحت عنوان «أخبار الغد» فى جريدتى الأهرام وأخبار اليوم، ينفرد فيها بعدد من الأخبار من مختلف أجهزة الدولة وكبار المسئولين والشخصيات فى الدولة المصرية، وربما من خارجها أيضاً. كانت لغته وأسلوبه فى الكتابة هو الكتابة التليغرافية السريعة التى انتشرت منذ سنوات قليلة وأصبحت سائدة على وسائل التواصل الاجتماعى!.

وقال الأستاذ أحمد بهاء الدين فى كتابه «محاوراتى مع السادات»، إننى كنت أجلس مع الرئيس السادات يوماً كاملاً ثم أعود فأجد على أمين ينتظرنى على نار فى «أخبار اليوم» ويسألنى.. إيه الأخبار؟، وكنت أبتسم وأقول له ليس هناك أخبار، وكان على أمين يجلس فقط نصف ساعة مع الرئيس السادات يتكلم فيها مع الرئيس، ويخرج منه بعشرين أو ثلاثين خبراً مرة واحدة، وينشرها فى أخبار الغد، مما جعل الرئيس السادات يتكلم مع أحمد بهاء الدين بعد ذلك ويقول له: على أمين ده راجل غريب جداً، يجلس ويتكلم معى ويسألنى أسئلة عادية جداً، وأفاجأ أنها تحولت إلى أخبار فى أخبار الغد!.

فكرة على أمين

والذى لا يعرفه كل قراء «أخبار اليوم» أنها بشكلها الحالى فكرة على أمين وليس مصطفى أمين، الذى كان يرغب فى أن تكون الجريدة الجديدة من القطع الصغير A4 مثل مقاس مجلة «آخر ساعة»، لكن على أمين هو الذى كان مفتوناً إلى حد الجنون بالإخراج الصحفى، وكان مهندساً للطباعة، وكان كل شىء بالقلم والمسطرة، وأصر على أن تكون الجريدة بهذا الحجم الكبير فتجمع بين طبيعة الجريدة اليومية فى شكلها وبين المجلة الأسبوعية فى موضوعاتها.
هكذا وُلدت «أخبار اليوم» عملاقة، وقال على أمين فى مقال له صدر بالعدد الثانى من «أخبار اليوم» تحت عنوان: كيف صدرت أخبار اليوم.. إنه أصدر تسع طبعات تجريبية للجريدة قبل نزولها للشارع، وفى كل مرة كان باعة الصحف يعودون ويطلبون منه زيادة كمية الطبع بعد أن أعجبهم شكلها وطريقة عرض الصور فيها، والعناوين المنشورة على أكثر من عمود، مما جعلها جاذبة للقراء، وظل يطبع بروڤات واحدة تلو الأخرى حتى وصلت ثمانى بروفات تقريباً، وطبع العدد الأول ١١٥ ألف نسخة لتنفد بالكامل بعد ٢٤ ساعة من صدورها، لتصبح الجريدة التى وُلدت عملاقة كما يقول مصطفى أمين، أو بعبارة قالها هو: «أخبار اليوم وُلدت تمشى وتتكلم».

رجل يعيش المستقبل!

وكان على أمين هو قلب «أخبار اليوم» النابض فعلاً، حيث كان كل أبنائها ومنهم: أحمد رجب، وأنيس منصور، ومحمد حسنين هيكل، يتجمعون حول على أمين فى مكتبه بصورة شبه دائمة!.

كان على أمين رجلاً يعيش فى الغد، ومن يقرأ كتابه «فكرة فى المنفى» يجد أنه تكلم عن الكمبيوتر الذى سيكون مستقبل الصحافة، وأن الصحف سوف تُنقل عبر وسائط إليكترونية، وكان على أمين يفكر فيها قبل نفيه إلى بريطانيا فى العام ١٩٦٥ حتى أنه أصدر فى منتصف العام ١٩٦٤ مجلة «هى»، وطبع العدد الأول منها ١٥٠ ألف نسخة، وقد غضب عبدالناصر لأنها كانت تهتم بآخر صيحات الموضة فى أوروبا، والحديث عن المكسرات واللوز والبندق فى مجتمع اشتراكى، حيث كان عبدالناصر يحرص على ضرورة ارتداء البدلة العمالية، سواء للرجال أو النساء، وأغلق مصطفى أمين المجلة بعد ٤ أشهر بناء على تعليمات عبدالناصر!.

دروس صحفية

تذكرت هذه الوقائع بعدما انتشرت فى الصحف ووسائل الإعلام، وكثرة الأخبار والموضوعات التى تُنشر على صفحة أو أقل قليلاً من الصفحة وتتناول موضوعاً واحداً أو عدة موضوعات على صفحات الصحيفة الواحدة، ومنها على سبيل المثال أحد الموضوعات غاية فى الأهمية بالنسبة للمواطن العادى.!
الموضوع يتضمن مصطلحات اقتصادية متعددة الأبعاد تعكس محددات نهج النمو الاقتصادى الشامل وطويل الأجل فى المحافظات المصرية، فى إطار النهج التشاركى وتعاون وثيق وممتد مع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية غرب آسيا «الأسكوا»، وبدعم من مشروع إصلاح واستقرار الاقتصاد الكلى التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، إضافة إلى مشاركة مسئولى الحكومة على المستويين المركزى والمحلى وممثلى المجالس النيابية والمؤسسات الدولية، فى إطار النهج التشاركى الذى تحرص عليه الدولة ورفع النصاب القيمى والنصاب النهائى فى اختصاص الدوائر الابتدائية!.

وأتحدى أن يكون أحد من القراء البسطاء قد فهم شيئاً من هذا الموضوع الذى نُشر على مساحة ثلث صفحة، ولم أستطع إكماله بسبب مصطلحاته التى لا يفهمها إلا حاملو شهادات الدكتوراه والماچستير وليس حتى الطالب الجامعى.

كان من الممكن أن يُختصر كل هذا الموضوع على ورقة واحدة فقط، ويقرأه أى مواطن مهما كانت ثقافته ببساطة ويفهم ماذا تم وكيف سيتم التنفيذ، وما هى الفائدة التى ستعود على المواطن البسيط من هذا الموضوع، أما إغراق المواطن أو القارئ فى متاهات وتفريعات وتخصصات لا قِبَل له بها، فهذا مضيعة لوقت الحكومة والقارئ، دون أى عائد، بل على العكس يحقق نتائج بالسالب لأن نجاح أى مشروع مرهون بمشاركة المواطن أو صاحب المشروع ودوره فى نجاحه وتأييده لتنفيذ المشروع فى الأساس أو رفضه!. وهذا تقصير وخطأ من المحرر الذى كتب الموضوع ولم يفهمه قبل أن يكتب!.

هذه الحالة أو هذا الخطأ حذرنا منه أستاذنا العظيم موسى صبرى فى بداية عملى الصحفى، ونبه على ضرورة أن أفهم الموضوع جيداً قبل أن أكتب حرفاً أو جملة، خاصة فى الموضوعات التى تحتاج إلى فهم وشرح مبسط من المتخصصين للمحرر، لكى يستطيع أن يكتب موضوعاً أو خبراً يقدم معلومة أو خدمة للقارئ فى أى مجال أو يحقق له منفعة شخصية أو عائلية.

مازلت أتذكر نصيحة الأستاذ موسى صبرى رحمة الله عليه عن هذه الحقيقة التى نصحنى إياها بأول يوم توجهت فيه لتغطية افتتاح المهندس ماهر أباظة وزير الكهرباء الأشهر لمحطة محولات شرق القاهرة جهد ٢٢٠، ومنذ تلك اللحظة وأنا حريص على أن أفهم كل ما أكتبه، خاصة أننى كنت أغطى مجالات هندسية فى الجانب الأشمل، إضافة إلى أهمية هذا المجال بالنسبة للمواطن العادى والمستثمر ومرافق الدولة فى كل المجالات، والحمد لله حصلت على شهادة أننى «مهندس»، نظرا للدقة التى كنت أنقل بها الأخبار والموضوعات، وقد منحنى هذه الشهادة الفخرية شفوياً ماهر بك أباظة، وزير الكهرباء والطاقة.

إشادة من السادات

واكتمل نجاحى فى تطبيق هذه النصيحة بعدما رافقت المهندس ماهر بك فى جولة بأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لزيارة المحطات النووية للاستخدامات السلمية وتوليد الطاقة الكهربائية النظيفة، ونشرت سلسلة من التحقيقات الصحفية على الصفحة الثالثة بجريدتنا ومعشوقتنا «الأخبار». وفى صباح أحد أيام نشر هذه السلسلة التى أعتز بها، كان الأستاذ جلال عيسى مدير تحرير «الأخبار» خارجاً من مكتب الأستاذ موسى صبرى، رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير، وكان الأستاذ جلال يتمتع بخفة ظل عالية وأبوية وأستاذية أيضاً فى الصحافة.. وإذا به يفاجئنى قائلا: «ستُعدم بالكرسى الكهربائى»..

وخطر على ذهنى أننى قد ارتكبت خطأ فى العمل، أو أن أحد الزملاء «قد ضربنى زمبة» عادى، لكنه استمر فى حديثه الأبوى لى قائلاً: الرئيس السادات كان يحادث الأستاذ موسى وأبدى إعجابه بسلسلة التحقيقات النووية التى تكتبها، وأن الأستاذ موسى قال له يا سيادة الرئيس ده شاب ممتاز وابنى.. قالها وهو يبتسم ابتسامته الشهيرة!

طبعاً كدت أطير من الفرح، والفضل يرجع لأستاذى موسى صبرى الذى أسدى إلىَّ نصيحة العمر، وهى أن أفهم أولاً ولا أخجل من السؤال أكثر من مرة للمصدر، ثم بعد ذلك أكتب ما فهمته حتى يفهم القارئ!.

لكن خطأ ما يُكتب اليوم دون شرح مبسط، يرجع إلى أن بعض الزملاء الشباب المحررين، وبعد فترة من العمل فى التخصص مهما كان صعباً، يعتقدون أن ما يكتبونه ليس صعباً على القارئ، لأنه أصبح شيئا عادياً بالنسبة لهم من كثرة ما يتردد أمامهم من عبارات ومصطلحات وتقارير وكلها بنفس الألفاظ والمصطلحات!.. كما حذرنا استاذنا جلال الحمامصى أيضاً من أن طول فترة عمل الصحفى فى مكان واحد، قد يخلق نوعا من الصداقة بين المحرر والمصدر المسئول، سواء كان وزيراً أو محافظاً أو رئيس هيئة أو.... هذا النوع من العلاقة (صداقة) قد تجعل المحرر «يطنش» عن الأخطاء التى تقع فى نطاق عمله، أو أن المحرر «يُلمِّع» صديقه «المصدر»، وتُخلق بينهما مصالح مشتركة يكون ذلك على حساب القارئ أو المواطنين، وهذا خطأ كبير يقتل العمل الصحفى تماماً ويُبعده عن الشفافية والمصداقية وخدمة القارئ الذى نعمل جميعاً من أجله، وهذا خط أحمر ينبغى عدم تجاوزه فى العمل الصحفى والإعلامى.