«نولان» الذى سرق الواقع ومنحه لمريديه فى «opoenheimer»

أيميلى بلانت وكيليان مورفى
أيميلى بلانت وكيليان مورفى

أحمد منتصر

عندما نُقدم على مشاهدة عمل سينمائى مبنى على أحداث تاريخية حقيقية ومقتبس من سيرة ذاتية، ندرك أن المهمة ستكون صعبة للغاية على صناع العمل، لأنه ليس هناك ما نجهله عن القصة وعن البداية والنهاية غير أن الواقع والمنطق المفروض على العمل لن يتيح أو يسمح بأى إضافات أخرى من شأنها تحقيق عناصر الجذب والتشويق.

لذا لم يكن أمام كريستوفر نولان كاتب ومخرج فيلم «opoenheimer» سوى أن يأتى بالخيال تحت أقدام الواقع وهو الأصعب بكثير من أن يذهب الواقع إلى حد الخيال، وقد أتقن بالفعل هذا فى أعماله السابقة.. قدم «نولان» شخصية «أوبنهايمر» العالم الذى أُطلق عليه «برومثيوس الأمريكي» نسبة لأسطورة «برومثيوس» فى الحضارة اليونانية الذى وقع فى حب المخلوقات وتأثر بآلامهم ومعاناتهم ضد برد الشتاء، وقرر أن يسرق النار من مملكة «زيوس» كبير الآلهة ويعطيها للبشر ولم يكن يعلم أنها ستكون سبب هلاكهم وفتنتهم فيما بعد.

كذلك «أوبنهايمر» الذى أقدم على اختراع أول قنبلة ذرية لخدمة وطنه ومن أجل تعزيز منطق البقاء للأقوى ولإيمانه بأن الأمور ستكون كارثية إذا سبقت ألمانيا أمريكا بتلك الخطوة الذرية، ولكنه لم يكن يعلم أنه سيصبح الرجل الذى منح العالم القوة لتدمير نفسه حتى أنه بعد استخدام أمريكا القنبلة الذرية لتسبب أول انفجار ذرى يشهده العالم فى هيروشيما ووصفها له بأنه تسخير لقوى الكون الأساسية، شعر «أوبنهايمر» بأن يداه ملطخة بالدم ووصف نفسه «برسول الموت»..

استطاع «نولان» أن يبحر بين مسارات الماضى ليلقى نظرة سينمائية على الصراع التاريخى والدائم للإنسان وهو صراع القوة وما يعززه من غريزة للبقاء ليجعلنا من نظرة إلى الماضى ندرك المستقبل وما ينتظر العالم من هلاك حتمى طالما أن مصير العالم يقع بين يدى الإنسان وتحت أهوائه ورغباته.

وبمشاهدة أعمال «نولان» السابقة التى كتبها وأخرجها ندرك أنه الوحيد القادر على تجسيد وخلق كل ما هو خارج حدود الوصف بالكلمات، كل مانشعر به فى صدورنا وبين ثنايا عقولنا ولم نستطع البوح أو النطق به؛ هو قادر على تحقيقه وإدراكه وهو الوحيد القادر على العبث بمسارات الزمن ما بين ماضى ومستقبل والحاضر بينهما..

‏«opoenheimer» تجربة إنسانية تحمل فى جوهرها الفرح والحزن، الانتصار و المأساة، الضعف والقوة، تمكن «نولان» فى تلك التجربة أن يتعمق داخل شخص العالم «أوبنهايمر» ليرسم بأدواته الخاصة جدًا ملامح تلك الشخصية وتجسيد كل مايدور داخله فاستطاع أن يجسد لحظات الصمت الأكثر بلاغة من الكلام، والضجيج الذى يملأ عقل عالم يخترع ما سيغير العالم ومستقبل البشر، كما استطاع تجسيد أحلامه وآلامه..

حتى لحظات شروده بين النجوم ومواد الكون وذراته، والخذلان الذى التهمه لاتهامه بالخيانة بعد رفضه المضى فى اختراع القنبلة الهيدروجينية، وتأصيل حقيقة أن العلماء هم ضمير العالم الحى.

كما استطاع «نولان» القبض على خيوط الجمال فى واحدة من أشد وأقتم اللحظات التى مرت على هذا الكوكب وهى لحظة اختبار القنبلة الذرية حيث جعل مشهد الانفجار كلوحة رُسمت بمادة النجوم التى انفجرت واحترقت منذ زمن بعيد ليعيدها «نولان» أمامك فى مشهد تاريخى يحبس الأنفاس، ليصبح «نولان» هو سارق الواقع ومقدمه لمريديه بصورة تُرى بالعقل قبل العين، وصوت يُسمع بالقلب قبل الأذن، فهى تجربة تختبر مشاعرك وترهق ذهنك وتستحوذ على حواسك.

لذلك نحن نقف أمام ملحمة إخراجية مدتها ٣ ساعات قائمة على بناء سردى قوى، وإنجاز تقنى مبهر، وأداء تمثيلى فريد، وصياغة جريئة للأحداث، إنه فيلم يجعلك تُقدّر كل جانب من جوانب صناعة السينما.

يقول المخرج أندريه تاركوفسكي: «تتمثل مهمة المخرج فى إعادة خلق الحياة وحركتها وتناقضاتها وديناميكيتها وصراعاتها، من واجبه الكشف عن كل ذرة من الحقيقة التى رآها، حتى لو لم يجد الجميع هذه الحقيقة مقبولة».