حديث الأسبوع

الذكاء الاصطناعى وتوبة البرلمان الأوروبى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

فسحت مصادقة البرلمان الأوروبى قبل حوالى شهر من اليوم، على أول قانون ينظم استعمالات الذكاء الاصطناعي، المجال أمام نقاشات تزداد سخونة مع مرور الأيام .فقد ارتأى المشرع الأوروبى سن تشريع أول قانون ينظم قواعد استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، قيل إنها تهدف إلى التأكد من أن أنظمة الذكاء الاصطناعى آمنة وتحترم المعايير الأخلاقية، وأن الشركات المشتغلة فى هذا القطاع ستحرص على الامتثال للقواعد واللوائح القانونية. ولم يقتصر التشريع الجديد على تنظيم استعمالات هذا البلاء الجديد، بل ذهب أبعد حد ممكن فى تجسيد قلق النواب الأوروبيين و تخوفهم مما يضمر هذا الفضاء من تهديدات و أخطار، حيث رتب عقوبات زاجرة عن الانتهاكات التى قد تطال مقتضياته، والتى تكلف مقترفيها غرامات مالية ضخمة تصل إلى ثلاثين مليون يورو، أو 6 بالمائة من الإيرادات السنوية للشركة، أى ما يعادل ملايير من الدولارات بالنسبة للشركات العملاقة.


النقاش الذى تزداد وتيرته ودرجة سخونته، بقدر ما يركز على مضامين التشريع الجديد، بين مناصر ومؤيد، بسبب الأخطار الكبيرة المحدقة بالبشرية بسبب الاستعمالات المنحرفة لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، و بين معارض له لاعتبارات ترتبط بمفهوم الحرية لدى هذا الفريق، فإنه أيضا يتطرق إلى قضية الشكل الملتصقة بالمبدأ فى هذه الحالة.


وهكذا يسجل النقاش المحتدم إقدام المؤسسة التشريعية الأوروبية، التى رفضت على الدوام التشريع بهدف الحد من ممارسة الحرية، وإن تعلق الأمر فى كثير من الأحيان بقضايا تهم الطبيعة البشرية نفسها، بمبرر أن مبدأ الحرية محصن فى تقديس خاص ولا يمكن التضييق عليه، أو الحد من حق الأفراد والجماعات فى ممارسته .إلا أنه فى هذه الحالة، و فى هذه المرة، وافقت هذه المؤسسة عن طواعية على التشريع فى قضية لا يمكن إنكار أنها ترتبط بمبدأ الحرية، بل الأهم فى هذا الصدد أنها فرضت عقوبات زاجرة على المخالفين وعلى منتهكى القواعد القانونية والأخلاقية. و بالتالى فإن البرلمان الأوروبى وافق عن طواعية، وبأغلبية شبه مطلقة على تقنين ممارسة ونشاط واستعمال مرتبط أشد الارتباط بقضية الحرية. ولم يول البرلمان الأوروبى أية أهمية للملاحظات والمؤاخذات والانتقادات الكثيرة التى عبرت عنها كثير من الأوساط السياسية والحقوقية والثقافية. حيث دفعت هذه الأوساط بالقول إن هذا القانون يحد من حرية الابتكار، بل يهدد هذه الحرية فى العمق. وهذه الحرية فى مجالات علمية وفنية وثقافية كثيرة ومتعددة يصعب رسم حدود دقيقة لها، وأن رسم هذه الحدود طبقا لهذا القانون سيبقى رهين تقديرات أوساط سياسية وقضائية. كما أن ذلك سيضعف التنافسية فى إطار نظام ليبرالى و يعود بالبشرية إلى الأزمنة المغلقة، حيث المركزية المطلقة والتحكم الشامل. كما ترى هذه الأوساط أن الإشكالية الكبيرة والمركزية فى هذا التشريع تتمثل فى طبيعة المعلومات والمستوى والدرجة التى يجب على مستعملى الذكاء الاصطناعى من أفراد و شركات مراعاتها أثناء الاستعمال.

وماهية التزامات الأنظمة عالية المخاطر التى يجب تطبيقها وفرضها على مختلف أنظمة الذكاء الاصطناعى ذات الأغراض العامة. وأيضا ماذا عن خطوط التماس بين استعمالات الذكاء الاصطناعى وحقوق التأليف فى مجالات الفنون والثقافة والأدب؟ وأخيرا وليس بآخر، ماذا عن التعقيدات المرتبطة بعلاقة الذكاء الاصطناعى بمحاربة مختلف أشكال الجرائم والإرهاب، وما إذا كانت أوساط سياسية وأمنية بالخصوص قادرة على استغلال هذا التشريع للمساس بالخصوصية، واستغلال الأبحاث المتعلقة بالجرائم لخدمة أغراض وأهداف أمنية صرفة؟


طبعا، لا أحد يجادل فى حتمية اتخاذ تدابير حمائية واحترازية فى مواجهة الأخطار الحقيقية التى تنذر بها استعمالات الذكاء الاصطناعي، وليس هذا بيت القصيد. بل يهمنا أن نسجل بأن البرلمان الأوروبى نفسه سارع هذه المرة إلى التشريع بهدف تقنين ممارسة ترتبط بحرية التعبير والنشر، ورتب جزاءات رادعة للانتهاكات التى تطال التشريع. ثم إن القضية موضوع التشريع والتقنين ذات بعد كوني، وتتطلب معالجة دولية لا تحد بالعامل الجغرافي. ومن ثمة فإنها قضية ترتبط بمهام المجتمع الدولى الذى يجب أن يحسن صياغة أجوبة مقنعة عن مختلف الأسئلة الخارقة التى تطرحها التحولات التكنولوجية الفائقة السرعة، وفى مقدمتها أنظمة الذكاء الاصطناعى غير المحدودة لحد الآن.
نقيب الصحافيين المغاربة