عصير القلم

الأمان فى العربة الأخيرة

أحمد الإمام
أحمد الإمام

‭‬ في‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬كان‭ ‬والدا‭ ‬الطفل‭ ‬‮«‬مارتان‮»‬‭ ‬يصطحبانه‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬جدته‭ ‬ليقضي‭ ‬عطلة‭ ‬الصيف‭ ‬هناك‭ ‬،‭ ‬وبعد‭ ‬توصيله‭ ‬إلى‭ ‬منزلها‭ ‬يتركانه‭ ‬ويعودان‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭.‬

ثم‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأعوام‭ ‬قال‭ ‬لهما‭ : ‬أصبحت‭ ‬كبيرًا‭ ‬الآن‭ .. ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬ذهبت‭ ‬وحدي‭ ‬إلى‭  ‬منزل‭ ‬جدتي‭ ‬هذا‭ ‬العام؟

وافق‭ ‬الوالدان‭ ‬بعد‭ ‬نقاش‭ ‬قصير‭ ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬المحدد‭ ‬وقفا‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬المحطة‭ ‬يكرران‭ ‬بعض‭ ‬الوصايا‭ ‬عليه‭ .. ‬وهو‭ ‬يستمع‭ ‬اليهما‭ ‬على‭ ‬مضض‭ ‬قائلا‭ ‬‮«‬‭ ‬لقد‭ ‬سمعت‭ ‬ذلك‭ ‬منكما‭ ‬ألف‭ ‬مرة‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬ينطلق‭ ‬القطار‭ ‬بلحظة‭ ‬،‭ ‬اقترب‭ ‬منه‭ ‬والده‭ ‬وهمس‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬أذنه‭.‬

‮«‬خذ‭ ‬هذا‭ ‬لك‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬شعرت‭ ‬بالخوف‭ ‬أو‭ ‬بالمرض‮»‬‭ ‬ووضع‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬جيب‭ ‬الطفل‭.‬

جلس‭ ‬الطفل‭ ‬وحيدًا‭ ‬في‭ ‬القطار‭ ‬دون‭ ‬اهله‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬،‭ ‬كان‭ ‬يشاهد‭ ‬تتابع‭ ‬المناظر‭ ‬الطبيعية‭ ‬من‭ ‬النافذة‭ ‬ويسمع‭ ‬ضجة‭ ‬الناس‭ ‬الغرباء‭ ‬تعلو‭ ‬من‭ ‬حوله‭.‬

حتى‭ ‬رئيس‭ ‬القطار‭ ‬تعجب‭ ‬ووجّه‭ ‬له‭ ‬الأسئلة‭ ‬حول‭ ‬كونه‭ ‬وحيدًا‭ ‬دون‭ ‬رفقة‭ ‬والديه‭.‬

حتى‭ ‬إنّ‭ ‬امرأةً‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الركاب‭ ‬رمقته‭ ‬بنظرة‭ ‬حزينة‭ ‬مشفقة‭ .. ‬فارتبك‭ ‬‮«‬مارتان‮»‬‭ ‬وشعر‭ ‬بأنه‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يرام‭.‬

ومع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت‭ ‬شعر‭ ‬‮«‬‭ ‬مارتان‮»‬‭ ‬بالخوف‭ ‬يتسلل‭ ‬إلى‭ ‬قلبه‭ ‬الصغير‭ ‬،‭ ‬فانكمش‭ ‬داخل‭ ‬كرسيه‭ ‬وامتلأت‭ ‬عيناه‭ ‬بالدموع‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تذكر‭ ‬همسات‭ ‬أبيه‭ ‬وأنه‭ ‬دسّ‭ ‬شيئا‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭.‬

فتّش‭ ‬في‭ ‬جيبه‭ ‬بيد‭ ‬مرتجفة‭ ‬وعثر‭ ‬على‭ ‬الورقة‭ ‬الصغيرة‭.‬

فتحها‭ ‬ووجد‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ :‬‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تخف‭ ‬يا‭ ‬ولدي،‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬العربة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بالقطار‮»‬‭.‬

هنا‭ ‬فقط‭ ‬تسرب‭ ‬الدفء‭ ‬والشعور‭ ‬بالأمان‭ ‬إلى‭ ‬قلب‭ ‬الصغير‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬بمفرده‭ ‬وأن‭ ‬والديه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬القطار‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬العربة‭.‬

كذلك‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ .. ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نطلق‭ ‬العنان‭ ‬لأجنحة‭ ‬أولادنا‭ .. ‬نساعدهم‭ ‬على‭ ‬التحليق‭ ‬عاليًا‭ ‬بلا‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

‭ ‬نعطيهم‭ ‬الثقة‭ ‬بأنفسهم‭ ‬ونمنحهم‭ ‬القدرة‭ ‬والجرأة‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬المناسب‭ ‬،‭ ‬ولكننا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬دائما‭ ‬متواجدين‭ ‬في‭ ‬العربة‭ ‬الأخيرة‭ ‬طوال‭ ‬وجودنا‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬مصدرا‭ ‬للأمان‭ ‬لهم‭.‬

علينا‭ ‬أن‭ ‬نراقبهم‭ ‬دائما‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬لنطمئن‭ ‬فقط‭ ‬انهم‭ ‬بخير‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتدخل‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ .‬

الانغماس‭ ‬الزائد‭ ‬في‭ ‬مشكلات‭ ‬الابناء‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرارات‭ ‬الحاسمة‭ ‬نيابة‭ ‬عنهم‭ ‬يجعلهم‭ ‬ضعيفي‭ ‬الإرادة‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬المسئولية‭ ‬ويدفعهم‭ ‬للاعتماد‭ ‬على‭ ‬والديهم‭ ‬بشكل‭ ‬مطلق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صغيرة‭ ‬وكبيرة‭.‬

وكم‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬عانوا‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬بعد‭ ‬رحيل‭ ‬أحد‭ ‬الوالدين‭ ‬أو‭ ‬كليهما‭ ‬،‭ ‬حيث‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬فجأة‭ ‬في‭ ‬مهب‭ ‬الريح‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اعتادوا‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬أب‭ ‬أو‭ ‬أم‭ ‬يتخذ‭ ‬جميع‭ ‬القرارات‭ ‬ويحل‭ ‬جميع‭ ‬المشكلات‭.‬

عزيزي‭ ‬الأب‭ .. ‬عزيزتي‭ ‬الأم‭.‬

لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يمنعك‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬أبنائك‭ ‬والخوف‭ ‬عليهم‭ ‬ورغبتك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حياتهم‭ ‬سهلة‭ ‬ومريحة‭ ‬،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحرص‭ ‬أن‭ ‬تظل‭ ‬دائمًا‭ ‬خلفهم‭ ‬وليس‭ ‬أمامهم‭ .. ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬العربة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬قطار‭ ‬حياتهم‭. ‬


 

;