«خيط» قصة قصيرة للكاتب حسن رجب الفخراني

الكاتب حسن رجب الفخراني
الكاتب حسن رجب الفخراني

لا تزال إِبرة الحياكة تفر من بين أصابعه تجرجر خلفها خيطا طويلا وتختبئ في أحضان الوسادة القطنية، وما بين غرسها وانتزاعها لا يزال موطأ الألم لم تنسل منه زفرات الشجن المقيم بعد.

سنوات يعجز عن حصرها وأدها باختياره، عاجزا عن فتح طاقة يلقي بداخلها انفاسه الباهتة الهاربة من وراء أصفاد العجز الإنساني.

يحملق قدر جهده، ويحدق بوهن في المقل التي أصبحت أسيرة في كوخ العلل، لم تبق لنوافذ الرؤية ما تجعلها تسكن جنبات اليقين، وبياض الشيب قد سطا على سوادها.

نادرا رغم قفزاتها السابحة التي لا تعد أن تنحني، ليس مثل ظهره الذي صار انكساره جراء الغضروف وأنيميا الفقر المدقع، ولم يكن يوما مانعا إياه من افتراش مقعده البائد، أو كتم سعاله الممتزج ببصاقه الأحمر القاني، ولا تزال يده أحيانا تغتصبها هزة فجائية، ورعشة توشك أن تفر بخلجات النفس.

احتساء كوب الشاي لم يعد كما مضى يشعره بطاقته الوثابة للحياة، ربما صنف الشاي ذاته لم يعد كما تعود عليه وهو لا زال في بداية دربه البائس، نعم لا زال يذكر حين عاد أحد أقربائه من إحدى الدول حاملا صنف فخيم منه ولم يبخل عليه ببعضه.

يومها دفعه الواجب لزيارته ومباركة قدومه الميمون، للحق كان هذا هو الشاي أما الآن فكل الأصناف التي تلقي في الأمعاء العطشى، لا تعدو كونها من نشارة الخشب ومضاف إليها طعم مجهول الصناعة والهوية.

ولت تلك الأيام واحترقت بين أصابعه كالسيجار الذي كان قريبه يتباهى به وهو يستقبل مهنئيه.

سقطت على غرة منه دمعة جافة، كادت أن تتسبب في اشتعال اللهب بين حنايا الوسائد الموتى، سمع النصح كثيرا من أطباء العيون النابهين أو ممن لا يزالوا على بداية الدرج الحكومي

: لا بد من إجراء عملية جراحية وسريعا, تكاد ان توشك علي فقدان بصرك نهائيا.

النصائح تكاد لا تصل آذانه، فتعود تجر أذيال الصمت المطبق، ويوشك قاربه أن يلثم قاع اليم.

يحاول أن ينهي لملمة بقايا أحزانه، ويدفنها فيما يحيكه من وسائد أو حشايا، لكنها تأبي إلا أن يكون لحدها في تاريخه.

بندول الساعة العتيق القابع فوق القرميد البالي يلقي بين الفينة والفينة أحدي دقاته الرتيبة، والتي تشبه السوط الذي يجلد به حين يغفو به الإرهاق ويسكن للخنوع، لا زال هذا الخاتم الذي يقيد سبابته يلقي به كلما نسي أو تناسي إلى الصفحات مجهولة الحروف.

الحاح أهل العرس عليه، كي يسرع في إنهاء الوسائد والمراتب حجارة تلقى على ظهره

: بالله عليك ألا أسرعت, الفرح علي الأبواب.

ها هو وحيد تمتزج دموعه الحائرة بذكرياته التي لم يحظ منهما إلا بالأشواك التي نبتت في شتى أنحاء جسده، وتلك الصورة الباهتة التي كانت تجاور البندول قبل أن تخفيها الأتربة التي تفر هربا من ضربه بعصاه على القطن.

بعض بقايا الصورة تبوح بما قد تلاشى.

هكذا أصبحت دائرة حياته، والخيط يتلاشى تدريجيا من بين أنامله المجعدة ونظرات الحنين ترمق الصورة الباهتة.

بخلده دارت أسئلة وكأنها حبالا غليظة، تقيده، تكمم فيه فلا يستطيع الصراخ أو البوح الهادي في سراديب التيه.

امتدت يده وبدأ يرتشف قطرات من كوب الشاي الذي أصابته سنة من النوم بجانبه، وضوء الشمس كأنه سراب وان كان كافيا الي حدا ما ليضيء تلك المقبرة التي يعمل فيها، لا يدري منذ متي، بها أيضا مصباح كهربائي كالح المحيا، يوشك أن يفقد صبره وأن يصرخ في تجهم

 : التجلد لم يعد سلعة رائجة له تلك الأيام.

يقرر التمرد والتصدي لظهره المنحني.

ينساب من خلفه كنسمة الصباح من داخل مذياع قديم لا يستطيع الارتباط إلا بمحطة واحدة وحجري (طرش) أغنية تمثل له الكثير حين كان شاب وحين تخلت عنه ابنته الوحيدة مثلما فعلت به الحياة.

يصمت وجلا مصغيا في وله وعشق لصوت كوكب الشرق أم كلثوم وهي تشدو

: أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ

يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد.

آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا.

كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا.

يعود بظهره ويسنده على الحائط، يطالع الفراغ، ويجرفه شلال اللحن، يفقد إحساسه بالزمان والمكان ويحلق فوق ظهر كلمات الأغنية، لا يعرف سببا مقنعا لهذا الشغف العارم بها، بل إنه لا يعي معني تلك الكلمات أو إلى ماذا ترمي.

هو يسمعها بوجدانه ولا يفطن إلى أن المذياع قد توقف.

لا يوقظه من غفوته إلا نداء صلاة الظهر

يتحامل على نفسه ويتوضأ من إناء يحيطه السواد أحاطه السوار بالمعصم، يتمتم ويهمهم ثم يفرش قطعة قماش من تلك التي يستعملها في الحياكة ويصلي جالسا، لكم تمني أن يزول هذا الغضروف الجاثم على حريته.

تحلو له القيلولة فيفرد جسده المتصلب ويطلق شخيره يوقظ الموتى.

ما تبقى له تلك الغرفة التي يقطنها بالإيجار، وبعض حروف من اسم ابنته التي لم تفكر يوما جديا في زيارته أو السؤال عنه , وهي ليست ببعيدة  عنه مكانيا , لكن روحيا بينهما سنوات من الضوء، هو من وهبها عمره وما يملك حتى ألقي به علي قارعة درب الغدر، فلم يعد يجد مأمن سوى في تلك الإِبرة وهذا الخيط الذي بدأ يفرد خصلاته الجديدة ويعود إلى حياكة تلك المرتبة وتلك الوسادة.