«نوستالجيا» قصة قصيرة للكاتب حسن عبد الرحمن

حسن عبد الرحمن
حسن عبد الرحمن

دلَف إلَى البناية التي يَسْكُنْ فِيهَا وَهُوَ مُسْرِع فِي خُطَاهُ وبالكاد يُحَرِّك قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ . . وَهُو يَحْلُم بِأَنْ يَأْخُذَ حَمَّام دافِئ كَمَا تَعُودُ كُلَّمَا رَجَعَ مِنْ الْخَارِجِ . . ودَقَّ جَرَسُ الْبَابِ لِأَنَّهُ نَسِيَ مَفَاتِيح الشُّقَّة فِي مَكَان عَمَلِه . . فَتِحَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ الَّتِي لَمْ تَكْتَرِث لتعبه وَبَدَأَت فِي الصُّرَاخ فِي وَجْهِهِ، لِأَنَّ عَمّ عَبْدِه حَارِسٌ الْعَقَارِ لَمْ يُطِعْ كَلَامِهَا وَلَم يُجْلَب لَهَا مَا أَرَادَتْ مَنْ السوبر ماركت الْقَرِيبِ مِنْ مَنْزِلِهِمْ . . طلِبَ مِنْهَا أَنَّ يَأْخُذَ قِسْطًا مِنْ الرَّاحَةِ، ثُمَّ يَنْزِلُ إلَيّ حَارِسٌ الْعَقَار فَيَقُوم بتوبيخه كَمَا اعْتَاد عَبْدِه وَكَمَا اعْتَاد بَاقِي سُكَّان الْبِنَايَة الَّتِي يَسْكُنُ بِهَا فَقَدْ كَانَ مِيعَاد مُقَدَّسٌ للصريخ.

 

بَعْدَ أَنْ أَدَّى الْمُهِمَّة اليَوْمِيَّة صَعِدَ إلَى شُقَّتَه مَرَّةً أُخْرَى وراوده نَفْس الْحُلْم، بِأَنْ يَأْخُذَ حَمَّام دافِئ وَيَجْلِس إِلَى ابْنَتِهِ ليداعبها كَكُلّ لَيْلِهِ ،وَهِيَ الَّتِي أنجبها بَعْدَ طُولِ انْتِظَار عَشَرَةَ أَعْوَامٍ . . فَأَصْبَحَت مدللة فِي كُلِّ شَيْءٍ وَهِيَ بالكاد تَمْشِي وتتعلم الْكَلَام . . جَلَس بِجَانِب ابْنَتَه حَتَّى غَالِبَة النُّعَاس . . فَنَام بجوارها . . دَخَلَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ وَجَدْته غارقا فِي أحلامه فَهَزّت رَأْسِهَا مبتسمة وَتَرَكَتْهم وأوصدت عَلَيْهِم الْحُجْرَة وَخَرَجَت.

 

آوت إلَى فِرَاشِهَا فصارعت النَّوْم بِضْع سَاعَات حَتَّى اسْتَطَاعَت النُّعَاس أخيراً . . غَيْرَ أَنَّهَا اسْتَيْقَظَتْ فِي الصَّبَاحِ عَلَى صَوْتٍ زَوْجِهَا وَهُوَ يوصد الْبَاب بهدؤ حَتَّى لَا يُوقِظ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي هِيَ كُلُّ حَيَاتِه . .رَغَم خفَّة حَرَكَتِه دَاخِلٌ الشُّقَّة إلَّا أَنَّهَا قَامَتِ مِنْ النَّوْمِ وَلَمْ تَسْتَطِعْ النَّوْم مَرَّةً أُخْرَى.

 

عَادَ مِنْ الْعَمَلِ منهكا كَكُلِّ يَوْمٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَح أمَام الْبِنَايَة الَّتِي يَسْكُنُ فِيهَا ضَجِيج وَجَمْعٍ مِنْ النَّاسِ وسيارتان إِطْفَاء حَرَائِق وَعَرَبَة إسْعَافٌ . . تَوَجَّه مُسْرِعا إلَيّ بَوَّابَة الْعِمَارَةُ غَيْرَ عابِئ بِركْن سَيَّارَتِه بَل وَتَرَكَهَا فِي وَسَطِ الشَّارِع . . حَتَّى إنَّ مَنْ مَرَّ بِجِوَارِه مِن قَائِدِي السَّيَّارَات أغْدَقَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّتائِمِ مَا يَصُم بِهَا أَذَانِه . . وَهُو يُعَبَّر ضِفَّة الشَّارِعِ وَلَا يُكْتَرَثُ . . كَان الْمُهِمّ عِنْدَهُ أَنَّ يَعْرِفَ مَا يَدُور أمام الْبِنَايَة الَّتِي يَسْكُنُهَا . . وَيَدْعُو اللَّهَ أَنْ لَا يَكُونُ مَسَّ ابْنَتَه وَلَا زَوْجَتِه أَيْ مَكْرُوهٌ . . لَكِنَّه عِنْدَمَا وَصَلَ إلَى مَكَان الْحَدَث . . . .

 

لَمْ يَجِدْ أَيْ شَيّ وَكَانَّ الْمَكَانُ هَادِي تَمَام. تكاد تُسْمَع حَفِيف وَرَق الْأَشْجَار وَهِيَ تَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ، مُحْدَثَة صَوْت رَقِيقٌ يَلْتَفّ حَوْل أُذُنَيْه . . لَكِنَّه سُرْعَانَ مَا صَرَخَ عَلَى حَارِسٌ الْعَقَار . . عَبْدِه أَنْتَ يَا عَبْدِه . . لِتَخْرُج لَهُ زَوْجٌ حَارِسٌ الْعَقَارَ مِنْ حُجْرَتِهَا وَهِي متدثرة ببطانية ثَقِيلَة، تكاد تَجْر قَدَمِهَا مِنْ أَثَرِ حَادِثٌ قَدِيمٌ : عِنْدَمَا شَبَّت النِّيرَانَ فِي الْبِنَايَةِ مُنْذُ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ مضت، صَرَخ مَرَّةً أُخْرَى . . أَيْن عَبْدِه أَهُو نَائِمٌ وَتَرَك مَكَان عَمَلِه كَعَادَتِه ؟ وَكَانَت الْمُفَاجَأَة عِنْدَمَا ردَّتْ عَلَيْهِ زَوَّجَ عَبْدِهِ . . . بِأَنَّ عَبْدَهُ قَدْ مَاتَ أَثْنَاء إِخْمَادِ النِّيرانِ فِي شقتك مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ أَعْوَامٍ . . وَإِن زَوَّجْتُك وَابْنَتُك قَد.....ماااا

 

عَاجِلِهَا بِسُرْعَة قَبْلَ أَنْ تَنْطِقَ وَقَالَ لَهَا أَرْجُوك لَا تُكمْلي . . وَانْطَلَق يَعْدُو الدَّرَج صعوداَ إلى شقته وَقَلْبُهُ يَكَاد يَنْخَلِع مِنْ مَكَانِهَ.

 

كَانَ اللَّهُ فِي عَوْنُه فَهُو مُنْذُ خَمْسَةَ أعوام عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مُنْذُ حَادِثَةِ وَفَاة ابْنَتَه وَزَوْجَتِه، يَفْعَل نَفْس الْأَفْعَال وَيَسْأَل زَوْجَ حَارِسٌ الْعَقَار نَفْس الْأَسْئِلَة . . غَيْرِ أَنْ مَنْ الْغَرِيبِ أَنَّ زَوْجَةَ حَارِسٌ الْعَقَار تَصْعَد كُلَّ لَيْلَةٍ لِتَبْحَث عَنْ زَوْجِهَا وَتُسْأَل عَنْ زَوْجِهَا . . وَتَرْتَقِي دَرَجَات السُلَم صُعُودًا وَهُبُوطًا بَحْثًا عَنْه ! !