من دفتر الأحوال

حينما تنكسر يداك عبثًا

جمال فهمى
جمال فهمى

الكتابة المنتظمة فى لهيب حر الصيف عذاب فعلًا ، لكنها فى الشتاء ليست أفضل كثيرًا ، ومع ذلك لابد لأمثال العبد لله أن يكتبوا فى كل الفصول وكل الأجواء ، ليس فقط لأن الحياة لا تتوقف بالحر أو بالزمهرير ، وإنما أيضًا لأن الكتابة حتى الموت هى وسيلة تنفسنا وعملنا ومصدر لقمة عيشنا الوحيد.


أكتب هذا الكلام اليوم ليس لأشكو، ولكن لأتذرع واتلكك بالحر وأحكى لحضرتك ملخصًا مخلًا جدًا لحكاية إنسانية رائعة وذائعة الصيت كتبها أديب أسبانيا العظيم ميخيل سرفانتس (1547 ـ 1616)، ورغم طرافتها وظرفها فإنها حملت للقراء درسًا بليغًا خلاصته أن البراءة والنوايا الحسنة لاتكفى، بل قد تكون ضارة وقد تؤدى إلى التهلكة إذا غاب عن صاحبها الوعى والعلم والثقافة.


أنها حكاية «دون كيشوت» الذى هو رجل متوسط اليسر ماليًا، لكنه ريفى يعيش فى إحدى قرى أسبانيا غارقًا فى عالم خيالى ساحر صنعه من قراءاته المحصورة فقط فى قصص وحكايات الفرسان القدماء الذين فتنوه وبلغ هوسه بهم أن قطع تمامًا كل علاقة له بالواقع المعيش، وفى لحظة قرر صاحبنا هذاـ
على رغم ضعف وهزال جسده الشديد ـ أن يقلد هؤلاء الفرسان ، خصوصًا ذلك النوع الذى قرأ فى كتبه أنهم كانوا يزرعون الأرض تجوالًا وحركة لا تتوقف ، ولا عمل لهم أو هدف إلا أن ينشروا العدل ويدافعوا عن الحق وينصروا الضعفاء ويحاربوا الشر والظلم حيثما حلوا وأينما قادتهم رحلاتهم التى لا تنقطع.


أعد دون كيشوت العدة لتنفيذ قراره ، فجهز للرحلة الطويلة حصانه الذى ينافسه فى التعب والهزال، وسلح نفسه بدرع معدنى بائس واستخرج من ركن قصى فى بيته سلاحًا قديمًا باليًا ، واعتمر خوذة وحمل رمحًا وبدأ رحلته المقدسة فى أرض الله الواسعة بعدما أقنع فلاحًا غلبانًا من جيرانه يدعى « سانشو» أن يكون تابعه ورفيقه فى طريق كفاحى طويل يعرف بدايته ، لكنه لا يدرى أين سينتهى ولا متى!!
سار الرفيقان ، القائد « دون كيشوت» والتابع «سانشو» ، بغير خطة ولا دليل ، يداعبهما أمل حلو أن يعثرا على  أهداف نبيلة يحققها الفارس الجديد الذى اعتبر نفسه رسول العناية الإلهية لنشر الخير فى الدنيا، وقبل أن تأخذهما الرحلة بعيدًا جدًا عن موطنهما، لاحت أمام القائد المزعوم أول أهداف حروبه الوهمية.


كان الهدف مجرد طاحونة هوائية ، لكن الوهم والجهل وطول الغربة عن واقع الحياة صوروا له أنها «شيطان رجيم» يضرب الهواء بأجنحته علنًا ومن دون حياء.
ومن دون جدوى ، جاهد الفلاح الغلبان «سانشو» لكى يقنع قائده المغوار بأن ما يراه ليس شيطانًا ولا شرًا وإنما « طاحونة» بريئة ومفيدة للناس، غير أن دون كيشوت أبى وعاند وركب دماغه الفارغ وذهب فعلًا يضرب برمحه «ريش الطاحونة» وهى تدور ، فقذفته هذه الأخيرة بقوة وأطاحت به فسقط على الأرض مضعضعًا.
فهل تعلم أو فهم شيئًا ؟! أبدًا ، بل استمر يدخل ويخرج مهزومًا من حروب ومعارك عبثية وإنما مجرد جنون خالص، لم يكسب من حروبه تلك شيئًا سوى البهدلة وقلة القيمة، وترك خلف سيرة حياته الغارقة فى العبث والغباوة والجهل، درسًا ثمينًا جدًا اختصاره : إن من الجنون محاربة طواحين الهواء لأنك لو فعلت فستظل على حالها تدور وستنكسر يداك أنت!!