«سراب».. قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم أحمد

قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم أحمد
قصة قصيرة للكاتبة آيار عبد الكريم أحمد

دائماً ما يُراودها هاجس التجربة؛ ليس مرة واحدة بل مرّات عدّة، ولكنّ الوصايا العشر التي تتلقاها يومياً من الأم، الجدة، الجيران هي ما تشكل حاجزاً زجاجيّاً بينها وبين الخُطوة الأولى لخوض هذه التجربة.

 

اعتادتْ أن تذهب إلى دروسها اليومية من ذلك الشارع الجانبيّ المعتاد، دون أن تنظر إلى مَن بمُحاذاتها أو تلفتْ إلى الوراء. تُصوّب نظرها للأمام دوماً بخطى سريعة.

تجلس شاردة الذهن، تفكر كثيراً، ويصنع عقلها  آلاف  التساؤلات.

ماذا لو سلكتْ  في طريق عودتها، ذلك الشارع الآخر الذي يخشاه الجميع؟

هل ستقوم القيامة؟ هل تُطبق السماء على الأرض؟

آلاف التساؤلات لا تُخمد نيرانها سوى تلك الكلمة؛ في اللحظة الأخيرة ترّن في أذنيها كناقوس خطر:

حذارٍ حذارٍ حذارٍ، وتُعيدها إلى سيرتها الأولى رُغماً عنها. " من خاف سِلِم"

لكن صديقتها المُقرّبة لم تقتنع يوماً، بتلك الوصايا العشر، فأحياناً تسلك هذا الشارع في طريق عودتها، لكن ما تلبثْ أن تهرول مسرعةً إلى الوراء تكتفي في البداية بالنظر من بعيد إلى تفاصيله وملامحه الغامضة، كمن ينظر إلى بحر ولا يرى منتهى الأفق له. لا يرى  النهاية.

حاولت الصديقة إقناعها مراراً بتجربة السير بهذا الشارع في طريق العودة كعادتهما سوياً بمشاركة الأشياء والألعاب والاستذكار.  فلماذا النّفور والخوف من هذا الشارع الغامض؟

تحذرها دائماً ألا تستسلم لوسوسة الشياطين القابعة داخلها، وتتخلى عن التجربة، لكن هاجس التجربة كان يرن في أذنيها رناً متواصلا، كطنين نحل  دؤوب لا يكف عن العمل.

اتفقت هي وصديقتها على السباق، ولكن كل واحدة ستسلك الطريق المريح إليها.  سلكتْ الأولى الشارع المعتاد بينما الصديقة المُكابرة المِقدامة سلكت ذلك الشارع الغامض. وصلت الأولى كالمعتاد إلى بوابة المنزل التي اتفقتا على الانتظار أمامها. لكن الصديقة الأخرى قد تأخرت بشكل جنوني، وقد طال الانتظار إلى ما يقارب عدة ساعات. أجمع الجيران على أنها سلكت ذلك الشارع الغامض وأصبحت بالفعل بين طيّات النسيان. لم يُعر الجيران اهتماما بفقدان الفتاة . لم يحاول شخص ولو حتى النظر من بعيد مثلما كانت تفعل الفتاة قبل فقدانها.

ما طُبع في ذاكرتهم عن الشارع،  عمره طويلاً يصل إلى أكثر من عشرين عاماً.

ذلك الشارع المهجور حالياً، ذو الحوادث المؤلمة . لماذا فتحتْ هذه الصديقة قصة هذا الشارع ؟ كانوا قد أغلقوا جميع نوافذه، و ألقوا بمفاتيحها ببئر عميق  وطُويَت صفحته إلى الأبد.

قررت الفتاة خوض التجربة للمرة الأولى، وربما تكون الأخيرة من أجل صديقتها. تريد أن تفهم وتستوعب ما حدث لها؟ هل ماتت؟  هل اختـُطفت أم أصبحت من سكان و أتباع ذلك الشارع المهجور؟

سارت ناحية الشارع. وقفت على مشارفه، تحاول الاستماع إلى صوت أقدام تطأه.   فإذا بها تستمع إلى أصوات غريبة. همسات، همهمات. ذبذبات.

 أصوات باعة جائلين،  حدّادين. نجّارين.سبّاكين.خبّازين . كلها أصوات آلات وهمسات أشخاص غير مألوفة للبشر الطبيعيين. لا وجود لأشخاص تسير بهذا الشارع. لا حياة به. مجرد نغمات إيقاعية رتيبة ،. تبعث داخل النفس الخوف والقلق. وفجأة استمعتْ إلى صوت من نهاية الشارع.،انقذيني  تعالِ معي، لا تتركينني  بمفردي.

الصوت يتكرر على مسمعها مرات عدة، وهي تقف مكتوفة الأيدي. وكأن السير  بأعماق هذا الشارع ، هو علامة الانصياع إلى تفاصيله والخوض  بملامحه الغامضة.

طفرتْ الدموع من عينيها. بل بكيت بحرقة وألم، لوّحت للصوت  بيديها من بعيد، بالوداع الأخير.

عادتْ إلى الوراء مسرعة وهي تجرّ أذيال الخيبة والحسرة، ظلت تهرول كغزال شارد تائه من قطيعه، تُهرول مسرعة قبل فوات الأوان، قبل أن تصبح سراباً.