فى الصميم

لهذا ينتصر التاريخ لثورة يوليو

جـلال عـارف
جـلال عـارف

من عاش تلك الفترة يعرف جيداً أن نظام ما قبل يوليو ٥٢ كان قد انتهى عمره الافتراضى، وبات فاقداً لأى قدرة على البقاء. وعندما صدر البيان الأول من «حركة الجيش» صبيحة ٢٣ يوليو بدا الأمر وكأن الجميع كانوا ينتظرونه، وخرجت جموع الشعب ترحب وتؤيد.. وتنتظر!

ولم يطل الانتظار. خرج الملك مطروداً، وبدأت مرحلة انتقال صعبة، ولم تمض أكثر من ستة أسابيع حتى كانت «الحركة المباركة» كما كان يطلق عليها أنها أكبر بكثير من تحرك عسكرى لإصلاح الجيش، وأنها جاءت تحمل مطالب الحركة الوطنية كلها فى العدل والاستقلال والحرية. ومع صدور قانون الإصلاح الزراعى الأول كانت «الثورة» تنطلق من أجل تغيير شامل يفتح الباب مرة أخرى أمام بناء الدولة الحديثة فى مصر، ويطلق العنان أمام أكبر تغيير اجتماعى شهدته مصر فى تاريخها، ويضع نهاية لمجتمع النصف فى المائة الذى كان يمتلك كل شىء فى مصر.

ويترك ٩٠٪ من المواطنين أسرى الفقر والجهل، بينما «الباشوات» يتصارعون على الحكم وعلى مضاعفة ثرواتهم بالمزيد من الفساد والإفساد الذى كان يرعاه «الملك الصالح» الذى كان يستعد للرحيل ويقول إنه لم يبق من الملوك إلا هو وملوك «الكوتشينة» التى كانت تلازمه على موائد القمار!!

لم يكن الطريق سهلاً أمام ثورة يوليو وهى تمضى فى طريق التغيير الشامل لكن الرؤية كانت واضحة من البداية والهدف كان محدداً: تحرير مصر من الاحتلال ومن الفقر، وبناء الدولة المدنية التى تستند على العدل والحرية. وكما كانت البداية مع الإصلاح الزراعى، كان عبدالناصر يلتقى - فى نفس التوقيت - مع الدكتور الحفناوى ليفتح ملف قناة السويس، وكانت قيادة الثورة تعيد كتائب التحرير للضغط على ٨٠ ألفا من جنود الاحتلال يرابطون فى منطقة القناة، وكان اليقين بأن إنهاء الاحتلال شرط ضرورى لبدء التغيير الشامل وهو ما حدث بالفعل حين رحل آخر جندى بريطانى فى مايو ٥٦ ليتم تأميم قناة السويس فى الشهر التالى، وليبدأ بناء السد بعد الانتصار على العدوان الثلاثى.

كانت التحديات هائلة، لكن ثورة يوليو كانت أقوى وهى تطلق طاقات الإبداع لدى كل المصريين ليحققوا المعجزات وهم يبنون ثم يدافعون عما يبنونه ثم وهى تقود حركة التحرر والاستقلال لكل أقطار الوطن العربى، وتقف سنداً لنضال شعوب افريقيا والعالم الثالث، وعندما نجح التآمر وحدثت الهزيمة فى ٦٧ كان  ما بنيناه هو السند لنا فالصمود فى حرب الست  سنوات التى انتهت بنصر أكتوبر..

كانت مئات القلاع الصناعية هى السند لاقتصادنا. وكانت مصر قادرة على بناء جيش المليون من الجامعيين، وكان الشعب الذى رفض الهزيمة يدافع عن حقوقه التى استعادها بعد عصور من القهر، وكان الوطن العربى كله سنداً، وكان اليقين كاملاً بأن النصر قادم وأن التضحيات كلها تهون من أجله.

والآن، وبعد أكثر من سبعين عاماً على يوليو المجيدة، وأكثر من خمسين عاماً على رحيل قائدها عبدالناصر.. مازالت حملات الهجوم مستمرة ومحاولات تزييف التاريخ لا تتوقف. لكن الحقيقة تبقى هى الأقوى..

هاجموا السد العالى لأنه قلل حصيلة صيد السردين (!!) وطالبوا يوماً بهدمه. وبقى ليحمى مصر من ويلات سنوات الجفاف من مخاطر نقص المياه..

وهاجموا تأميم القناة وهم يدركون ما تكشفه الوثائق اليوم من أنه لولا التأميم لما أعادوا القناة لنا أبداً(!!) ولولا دفاعنا عن قناتنا لما كانت اليوم رمزاً لإرادتنا المستقلة ولنجاحنا حين نتولى المسئولية ولقدرتنا على الإدارة الناجحة التى وصلت بالإيرادات إلى عشرة مليارات دولار.

وهاجموا مشروعاتنا الصناعية الكبرى فى ظل ثورة يوليو، ليدخلوا بمصر إلى عصر السمسرة والاستيراد من الخارج. واليوم نعود لنستأنف مسيرة التصنيع التى عطلوها لسنوات كلفتنا الكثير.

وتركوا «أخوان الشر والارهاب» يزيفون التاريخ عن تآمرهم ضد الوطن والثورة حتى سقطت الاقنعة كلها وظهر للعالم وجه «الإخوان» الحقيقى الذى كشفته ثورة يوليو مبكراً: جماعة أدمنت قياداتها الخيانة، واحترفت الإرهاب، واعتبرت الوطن حفنة من تراب عفن، ورأت مستقبل مصر فى كهوف قندهار.. لولا رعاية الله وانتصار الشعب للوطن وللدين الصحيح.

ينتصر التاريخ يوما بعد يوم لثورة يوليو، وتثبت الاحداث أنها امتلكت البوصلة الصحيحة التى اهتدت بها فى كل تحركاتها الداخلية والخارجية والتى انطلقت من ميراث الحركة الوطنية المصرية مع انفتاح على عالم يتغير، ووعى بأن مصر تستحق ما هو أفضل بكثير مما كانت فيه قبل الثورة التى غيرت وجه مصر، فغيرت مصر وجه العالم.

كل عام ومصر بخير.. تحتفل بالثورة، وتنتصر للتاريخ.. وللمستقبل.