قمة «إفريقيا» روسيا شراكة مؤثرة فى النظام العالمى الجديد

مصر الشريك الرئيسى لروسيا فى إفريقيا

 صورة تجمع الرئيس الروسى بوتين مع زعماء القارة الأفريقية
صورة تجمع الرئيس الروسى بوتين مع زعماء القارة الأفريقية

تستضيف روسيا فى الفترة بين يومى 27 و 28 يوليو الجارى قمة «روسيا - إفريقيا» التى تعتبر الثانية من نوعها بعد القمة الأولى التى عقدت فى منتجع سوتشى بروسيا فى الفترة من 23 إلى 24 أكتوبر 2019 والتى شهدت اهتمامًا وحماسًا ملحوظًا سواء من جانب روسيا أو من جانب الدول الإفريقية التى كانت ومازالت تتطلع إلى إعادة بناء العلاقات والتعاون مع روسيا انطلاقا من التجارب الناجحة السابقة للتعاون بين القارة الإفريقية والاتحاد السوفيتى السابق.

تؤكد المؤشرات أن القارة الأفريقية تتوق إلى استعادة روسيا لدورها البناء فى مختلف مناحى الحياة بها كما ان روسيا بدورها أصبحت تثق وبشدة ان المستقبل يرتبط بتنويع شركائها وان المستقبل يرتبط بالقارة السوداء التى تزخر بالثروات والإمكانيات التى تتطلب توسيع التعاون بما يعود بالنفع على الجميع سواء داخل القارة أو الشركاء من الخارج، وربما انعكس هذا الإدراك بشكل واضح ومباشر على عنوان القمة السابقة وهو «من اجل السلام والأمن والتنمية».

وأظهرت روسيا فى القمة السابقة قدرة عظيمة على تنظيم مثل هذه الفعاليات العملاقة سواء من جهة الشكل أو المضمون، فمن جهة الشكل شارك فى تغطية القمة السابقة أكثر من ثمانمائة من ممثلى مختلف وسائل الإعلام بما فى ذلك أكثر من خمسمائة من روسيا ومائتين وخمسين من ثلاث وأربعين دولة من دول العالم وعلى الأخص الدول الإفريقية بطبيعة الحال، وإلى جانب ذلك حرص 1100 من ممثلى مختلف دوائر المال والأعمال الأجنبية على الحضور إلى جانب 1400 من ممثلى ذات الدوائر فى روسيا، كما شارك 1900 ممثل عن وفود رسمية أجنبية إلى جانب 400 من روسيا.

وسبق الدورة السابقة للقمة الروسية- الإفريقية جهد مكثف من جانب روسيا لتحديد الاتجاهات المختلفة الممكنة للتعاون مع الدول الإفريقية سواء على المستوى الثنائى او الجماعى حيث شجع ذلك على المشاركة بشكل نشط فى القمة حيث حرص على المشاركة فى الدورة السابقة للقمة ممثلون عن الأربع وخمسين دولة إفريقية بما فى ذلك 45 رئيس دولة وحكومة إلى جانب ممثلين عن ثمانى منظمات إقليمية إفريقية رئيسية وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي.

قصارى القول أن روسيا قد أظهرت خلال هذه الدورة قدرة فائقة وعملاقة فى تنظيم الفعاليات الضخمة دون أدنى مشكلة تصادف أى من المشاركين إلى جانب تنويع الاهتمامات والموضوعات التى تحقق الفائدة المشتركة حيث خرجت الدورة بالتوقيع على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التعاون بقيمة تعدت التريليون وأربعة مليارات روبل روسى بما فى ذلك مشروعات مع مصر بقيمة تصل ٩٠٫٣ مليار روبل وذلك فى إطار اتفاق بين شركة مصرية وشركة روسية على إنتاج زيوت الطعام بهدف التصدير بقيمة ١٩٫٢ مليار روبل والاتفاق بين شركة السكك الحديدية المصرية وشركة «ترانس ماش هولدينج» الروسية على توريد 1٫3 ألف عربة سكك حديدية بقيمة 71٫1 مليار روبل.

وكما أشرنا من قبل فقد شهدت القمة الاولى زخمًا كبيرًا من التفاهمات حول توسيع التعاون بين روسيا ودول القارة بقيمة 1٫3 تريليون روبل فى مختلف المجالات التكنولوجية والصناعية والزراعية والطاقة والنقل والمواصلات ولكن للأسف الشديد أن سوء الحظ صادف أغلب هذه التفاهمات حيث لم تجد طريقها إلى النور وربما باستثناء الاتفاقات المبرمة بين روسيا ومصر والتى تم تنفيذها بالكامل إضافة بالطبع إلى العديد من الاتفاقات الأخرى حيث ينبغى هنا أن نعترف بحقيقة مؤكدة وناصعة البياض وواضحة للمبصر والضرير فى ذات الوقت وهى أن التعاون بين روسيا ومصر يستند فى المقام الأول إلى إصرار البلدين على المضى قدما على طريق تنفيذ كل ما يتفقان عليه من مشروعات مهما كانت الظروف سواء الدولية او الداخلية فى البلدين.

وقبل الخوض فى الأسباب التى حالت دون تحقيق الكثير من المشروعات الطموحة التى كانت روسيا والدول الإفريقية تعتزم تنفيذ جانب كبير منها قبل الدورة الثانية ينبغى أيضًا أن نعترف بأن القمة الأولى كان الهدف منها هو إعلان عودة روسيا إلى القارة الإفريقية وهذا الهدف بالذات يمكن القول بكل تأكيد انه تحقق عمليا انطلاقا من الرغبة المشتركة بين روسيا ودول القارة على التقارب والتعاون ورغم الضغوط الشديدة التى تتعرض لها دول القارة من جانب الغرب من أجل منع عودة روسيا إلى القارة رغم ان هذا المطلب إفريقى قبل ان يكون روسيا..

وكما أشرنا من قبل فقد كانت روسيا قبل الدورة الأولى للقمة قد استعدت بعدد كبير جدا من الأفكار والمشروعات المشتركة التى تحقق الفائدة لدول القارة وروسيا على حد سواء إلا أن الظروف الخارجة عن الإرادة حالت دون تحقيق هذه المشروعات فى حينها وهذا لا يعنى مطلقا إلغائها بل مجرد إرجائها لحين توفر الظروف المناسبة حيث ما كانت قمة 2019 تنتهى حتى واجه العالم محنة جائحة كورونا التى أوقفت الحركة فى العالم أجمع لفترة وقبل أن تهدأ هذه الجائحة دخل العالم فى محنة جديدة جراء الازمة الروسية - الأوكرانية وما أعقبها من صراع لا معنى له بين روسيا والغرب مجتمعا على الأراضى الأوكرانية بحيث لا يدرى احد حتى الآن السبيل إلى إنهاء هذه المواجهة.

ومن هنا يمكن القول بان قمة العام الجارى تختلف نصًا وموضوعًا عن القمة السابقة من حيث الظروف والملابسات حيث ربما تقوم القمة الحالية على أساس البحث المشترك عن منطلقات للنظام العالمى الجديد بما يحقق للجانبين السيادة الحقيقية بعيدا عن سياسات الإملاء من جانب القوى الغربية وفى نفس الوقت إذا كانت القمة السابقة لم تشهد تعجلًا فى تلمس سبل التقارب والتعاون المشترك فهذه المرة سيتعين على الأطراف المشاركة فى القمة الحديث عن مشروعات ملموسة للتعاون والتحرك السريع نحو التقارب وصياغة الآليات التى تحقق ذلك.

والحقيقة أن القمم والمنتديات التى تجمع إفريقيا مع القوى الكبرى فى العالم متعددة إلا أن القمة مع روسيا لها رونق مختلف خاصة وأن الدول الإفريقية لم تنس التاريخ المشترك مع روسيا وتجارب التعاون مع الاتحاد السوفيتى والتى كان لها اثر بالغ وملموس فى تطور القارة الإفريقية على مختلف المستويات، ورغم أن قمة «روسيا - إفريقيا» ليست التجربة الأولى للقارة الإفريقية حيث تسبقها بمراحل زمنية العديد من القمم المشابهة مثل «قمة الصين - إفريقيا» و«قمة اليابان - إفريقيا» والتى كانت قد بدأت فى عام 1993 وسبقتها التعاون بين الأمم المتحدة وإفريقيا فى بداية الألفية الثانية إلا ان قمة روسيا - إفريقيا تكتسب ميزة مختلفة وهى أنه يمكنها الاستفادة من التجارب السابقة حيث تشير لورا تشيكونيا الباحثة العلمية فى مركز دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا فى معهد العلاقات الدولية والتى كانت قد شاركت فى ندوة عقدها نادى فالداى الروسى للنقاش السياسى حول المأمول من القمة الثانية لروسيا - إفريقيا ...

أشارت إلى أن التجربة الهندية فى إفريقيا تعتبر تجربة ناجحة لأنها تقوم فى المقام الأول على الدقة فى تحديد الأهداف من الدخول فى المضمار الإفريقى، وتضيف ان تعاون الهند مع الدول الإفريقية يقوم على أساس خريطة طريق دقيقة وتهتم بكافة التفاصيل بما فى ذلك عدد المنح الدراسية التى تقدمها وستقدمها الهند لكل دولة إفريقية، وحجم التمويل التى ستطرحه على كل دولة على حدة، ونوعية المشروعات التى تعتزم الدخول فيها فى كل دولة والمستهدف من كل مشروع.. وتلفت الباحثة الروسية الانتباه إلى شيء مهم جدا وهى ان القارة الإفريقية فسيحة وتتسع للجميع بما تملكه من قدرات وإمكانيات وأفاق مستقبلية وهو ما يؤكد أن القارة الإفريقية تصلح لان تكون ساحة لتقابل المصالح والتعاون الصادق بين كافة اللاعبين الدوليين بما يحقق المصلحة للجميع وقبل كل شيء شعوب القارة التى أرهقتها المنافسات بين الدول الكبرى دون ان يعود عليها ذلك بأى نفع.

واعتقد أن هذا هو المفهوم الذى تقوم عليه النظرية الروسية لولوج القارة الإفريقية ومن هنا تنبع أهمية الأجندة التى استعدت بها هيئة تنظيم القمة حيث تعتزم الهيئة وهى «هيئة التعاون الروسية - روس ساترودنيتشفا»  تنظيم العديد من الندوات فى إطار القمة حيث تتوزع ما بين أربعة محاور رئيسية وهي: «محور الاقتصاد فى العالم الجديد» و«محور الأمن الكلى والتنمية السيادية» و«ومحور التعاون فى مجال العلوم والتكنولوجيا» و«محور المجال الإنسانى والاجتماعى : معا نحو مستوى جديد للحياة».

والمحور الثانى هو الأهم حيث انه لا يمكن بأى حال من الأحوال الحديث عن استثمارات ومشروعات مشتركة وتطور علمى دون توفر الاستقرار والأمن، ومن هنا نتفهم رغبة روسيا فى البدء دائما بالتعاون فى المجالات الأمنية والعسكرية حيث تنطلق هذه الرغبة ليس من مساندة هذا او ذاك من الأنظمة والحكومات ولكنها رغبة فى مساعدة الدول على التأكيد على سيادتها واستقلالها والعمل على ترسيخ الاستقرار والأمن كعوامل أساسية تساعد وتشجع على تدفق الاستثمارات الأجنبية لأنه ببساطة من حق أى صاحب رأس مال أن يطمئن على استثماراته قبل ان يخاطر بها فى أى مكان.. والشيء الآخر الذى لا يقل أهمية هو ان روسيا لديها علاقات متميزة مع القوى الاخرى التى تهتم بإفريقيا مثل الصين والهند ودول الخليج العربى وفى نفس الوقت لا يوجد هناك تنافس عدوانى بينها وبين اليابان فيما يخص إفريقيا وبالتالى يمكن القول بأن كافة هذه التجارب والمشاريع يمكنها ان تتلاقى معا لمصلحة القارة التى تتسع لكافة الاتجاهات والنوايا الطيبة للتعاون والاستثمار..

وعليه يمكن القول بكل تأكيد أن القمة القادمة فى سان بطرسبورج ستكون بمثابة الفصل الثانى لإعادة التأكيد على ما تم الاتفاق عليه فى القمة الأولى ولم يجد طريقه وفرصته الكاملة للنور بسبب الظروف الدولية الخارجة عن إرادة الجميع، كما ستكون بمثابة الفرصة الذهبية للدول الإفريقية لتقول كلمتها فيما يخص مستقبل النظام العالمى الجديد والذى ينبغى لدول القارة أن يكون لها مكان فيه والاهم من ذلك ان تلحق بركب روسيا والصين وبقية القوى التى تنادى بالبدء فى التفكير فى شكل النظام الجديد وقواعده بما يحقق مصالح وأمن الجميع حتى لا تنتظر دول القارة ظهور نظام يفرض عليها مجددا ويحقق مصالح بناته مع التجاهل الكامل لمصالح الآخرين.

وختاما ينبغى أن نشير إلى أن روسيا قد بعثت بالفعل عدة إشارات ورسائل ينبغى الاهتمام بها قبل الدخول فى القمة التى سوف تمثل الفرصة لكى تصبح القارة الإفريقية لاعبا فاعلا فى الشأن الدولى وقبل ذلك تمارس سيادتها فيما تملكه من قدرات فإذا كانت دول القارة على مستوى هذه الرسائل والمسئولية فسوف تتمكن من عبور المرحلة الصعبة الحالية نحو مستقبل أفضل وإلا فسوف يظل الوضع على ما هو عليه وتظل القارة فريسة لكل طامع فى مقدراتها، وهى الرسائل التى استوعبتها القيادة المصرية بشكل جيد وكامل بل شاركت فى صياغتها انطلاقا من حتمية الدور الذى تلعبه مصر فى حركة التاريخ.