ثلاثون عامًا بالتمام والكمال مرت على صدور العدد الأول من «أخبار الأدب» عن دار «أخبار اليوم «قد لا تكون تلك العقود الثلاثة كبيرة فى حكم الزمن، ولكن تاريخ «أخبار الأدب» الحقيقى يقاس بحجم ما أثرَت وأثًرت فى الحياة الأدبية والفكرية والثقافية المصرية والعربية، وبعدد ما أثارت من قضايا تصدت لمناقشتها، وانحازت فيها على طول الخط للحقيقة، ولم تهادن يومًا جماعة، ولا سلطة ولم تدغدغ يومًا مشاعر المغيبين بفعل تجار الدين، واذا كانت هناك جملة اعتراضية خارج السياق فى هذا التا ريخ، فيحسب لأخبار الأدب أنها امتلكت القدرة والإرادة التى مكنتها من تقويم المسيرة وإعادة الأمور لنصابها ،كما يقاس التاريخ الحقيقى لها بعدد ما أشعلت من مصابيح تنير بها الطريق، وبعدد الأسماء التى دفعت بها للحياة الثقافية والفكرية، ووقفت وراءها حتى أصبحت تتسيد الساحة الفكرية.
لم أكن فى مصر يوم الميلاد، كنت هناك فى قطر أعمل فى الشرق القطرية، كنت أحرص على جمع «رول» الورق الطويل الذى تطبع عليه أخبار وكالة أنباء الشرق الأوسط، وفى مرة وقعت عينى على خبر فى النشرة الثقافية المتخصصة يتحدث عن تفاصيل احتفاء الحياة الثقافية المصرية والعربية بالمولود الجديد :أخبار الأدب ،وقتها انتهجت مؤسسة أخبار اليوم سياسة التوسع فى إصدار صحف متخصصة: أخبار الرياضة وأخبار الحوادث وأخبار النجوم وأخبار الأدب، ولم يكن غريبًا ولا مفاجأة بالنسبة لى أن يكون رئيس التحرير هو الكاتب الصحفى الكبير جمال الغيطانى .
علاقتى بالغيطانى – مع حفظ الألقاب والمقامات – كانت حتى ذلك الوقت محدودة جدًا، مجرد قارىء لعدد من أعماله، وأعرف عنه الكثير كأحد أهم المحررين العسكريين لأخبار اليوم،عرفنى قبل ذلك بسنوات مجرد صحفى صغير فى صالة تحرير الدور الرابع فى المبنى التاريخى لأخبار اليوم، وكان هو من هو، يجلس في مكتب صغير فى نهاية الصالة يشاركه فيه الكاتب الصحفى سمير غريب .
شغلنى الخبركثيرًا، ولأول مرة منذ قدومى إلى الدوحة قبل أكثر من عام، أشعر بمرارة الغربة، وقسوتها، إنه المشروع الحلم لى ولأى صحفى: أن أعمل فى شىء أحبه، فى صحيفة أدبية ،ويرأس تحريرها أديب، وليست أى صحيفة إنها صحيفة ستصدر بمواصفات ومعايير أخبار اليوم التى بالتأكيد ستنجح فى تحقيق المعادلة التى يعتبرها البعض مستحيلة: محتوى جيد وراق ولكن بروح صحفية، يقبل عليها القارىء، وللأسف انتصرت لقمة العيش لأننى لم أكن قد انتهيت بعد من تسديد ديون الزواج أو تأسيس بيت الزوجية ..سبقنى الكاتب الصحفى والروائى الصديق عزت القمحاوى إلى الشرق، وسبقنى أيضا فى العودة إلى بيته أخبار اليوم، ولأول مرة أغبطه على أنه نجح فيما فشلت فيه، نجح فى أن يضع نقطة ويبدأ من أول السطر فى الاشتراك فى تشييد دعائم أخبار الأدب التى لا يمكن التحدث عنها، من دون الحديث عن عزت القمحاوى وأسماء كثيرة، بعضها رحل عن دنيانا الفانية، وبعضها انتقل إلى إصدارات أخرى شقيقة والبقية صاروا نجوما ولا زالوا يزينون صفحات أخبار الأدب بإبداعاتهم الأدبية والصحفية، وكل منهم يستطيع منفردًا أن يدير مطبوعة صحفية .
ولدت أخبار الأدب من يومها الأول قوية عفية، تمتلك أسباب بقائها بتأسيس قوى ورؤية واضحة غير ملتبسة لمنهج عملها أو لرسالتها، وقّع شهادة ميلادها نجيب محفوظ، حبًا فى الغيطانى ودعمًا، وانحيازًا لرسالتها التى ترتكز فى مجملها على تعزيز ودعم ونشر قيم الفكر والثقافة والتفكير النقدى .
انحازت أخبارالأدب طوال الرحلة ولازالت لكل من حملوا مشاعل التنوير، لم تهادن يوما ولم تلعب على حبال التوازنات، انحازت فقط للحقيقة ولكل شىء يعلى من قيم الفكر والتنوير، ودفعت فاتورة غالية، واتهمت باتهامات كثيرة، وأخرج بعض مأفونى العقل محرريها من الملة، واعتبروهم كفرة لأنهم قالوا كلمة حق فى وجه تجار الدين، أو من يهادنونهم .. أضاءت الطريق لأسماء أصبحت أعلاما فيما بعد، وصلت رسالة أخبار الأدب إلى كل الدول العربية، ووصل الأمر إلى حد أن توزيعها فى دولة مثل المملكة المغربية كان ينافس توزيعها فى مصر، وخلال سنوات أصبحت أخبار الأدب طرفًا فاعلًا فى مجريات الحياة الثقافية العربية وسدت فراغًا كبيرًا ،لم يستطع ملؤه غيرها وعن اقتدار
.
خلال هذه السنوات، خاضت أخبار الأدب معارك شرسة كُتبت عليها دفاعًا عما رأته حقيقة، وبنفس الصدق دافعت عن حق من اختلفوا معها فى الرأى كثير مما طرحت كان موضوعًا لعدة استجوابات تحت قبة البرلمان ،وكثير مما تصدت له ،تمت ترجمته إلى قرارات ،وبسبب موضوعاتها تم وقف العديد من المشروعات التى كان فيها اعتداء على التاريخ والتراث والفكر الإنسانى .
رأسمال «أخبار الأدب» الحقيقى، يكمن فى وجهة نظرى، فى محرريها، فكل منهم »على الفرازة « انتقاه جمال الغيطانى بعين الجواهرجى الذى يدرك بالنظر الفارق بين الألماس والزجاج وإن أعطى بريقًا كاذبًا تحت الضوء، لم يكن الالتحاق بـ «أخبار الأدب « لهم مجرد وظيفة والسلام ..كل منهم تربى وتعلم فى مدرسة الغيطانى، وتشرب حرية الفكر والرأى فى كل شىء، تعلم كيف، وماذا يقرأ وكيف ينحاز لحرية الإبداع من دون وجل، تعلم أن له رأيًا وفكرًا يُحترم، ولأن أخبار الأدب كانت متفردة منذ اليوم الأول لصدورها أحدثت الصدى والتأثير المطلوب ،وحاز محرروها كل الجوائز المصرية والعربية المخصصة للصحافة الثقافية، عن جدارة واستحقاق،حتى لقبوا بصائدى الجوائز، أحدثهم المحرر الشاب شهاب طارق ،ورغم أن سنه دون الثلاثين إلا أنه نجح فى اقتناص ثلاث جوائز تكفى من يحصل على واحدة منها الشرف كله: جائزة الصحافة العربية، وجائزة هيكل للصحافة العربية، وجائزة اتحاد الآثاريين العرب.. ناهيك عن الإنتاج الإبداعى والنقدى لأغلبهم.
تحقق حلمى وأصبح حقيقة بعد ما يزيد على ربع قرن، ونلت الشرف كله وجلست منذ سنوات ثلاث على مقعد أستاذى: الكاتب الكبير جمال الغيطانى،لا أدع أننى أضفت شيئًا، إلى البنيان القوى لـ «أخبار الأدب» اللهم إلا اجتهادى الدائم بمساعدة زملائى فى أن تظل صوتًا للجميع، معبرة تعبيرًا أمينًا عن الجماعة الثقافية .
أنا لا أكتب ونحن نحتفل بالعيد الثلاثين لأخبار الأدب فى الحقيقة من أجل أن أعدد ما صنعته، وما قدمته للحياة الثقافية والفكرية المصرية العربية، بل وللإبداع والفكر الإنسانى، فهذا موجود، ولا ينكره إلا جاهل أو حاقد ،وكلاهما لا يعنينا ،ولكننى للأمانة أكتب لكى أهمس فى الآذان وأقول وأؤكد أن «أخبار الأدب» وجدت لتبقى ،ووجدت لكى تتطور مع تطور وسائل الإعلام الحديثة، لا يعنى التطور اختفاء الوظيفة أو الدور ، ولكن يعنى التطور والمواكبة، أخبار الأدب، إحدى أذرع القوى الناعمة المصرية التى لم يتجاوزها الزمن، ولم تدهمها وسائل التواصل الاجتماعى .
إن دور ورسالة «أخبار الأدب ،«لا تحسب بالربح والخسارة أو حتى بأرقام التوزيع الورقى للمطبوع، فدورها لا زال باقيًا ،ورسالتها ممتدة ،ومستمرة ، من جيل إلى جيل .ترك الغيطانى رئاسة التحرير، ثم رحل فى وقت آخر، واستمرت زرعته لا تبخل بثمارها إلى يومنا هذا ،ويجب أن تستمر إلى ما لا نهاية .
أخبار الأدب ملك للجماعة الثقافية، و اذا كان مؤسسها قد رحل فإن رسالتها مستمرة عبر تلاميذه الذين يواصلون أداء الرسالة بكفاءة ،وعلى الوجه الذى يجب ،والأهم أننا نعاهد القارئ ألا نحيد عن هذا الدور ..نعاهده أن تظل شابة لا يصيبها الترهل ونحن نحتفل بعيدها الثلاثين .