خارج النص

محاكمة «المحكمة الجنائية الدولية»!

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

تستحق المحكمة الجنائية الدولية التى تأسست عام 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء، أن تخضع للمحاكمة بعد أكثر من عقدين على تأسيسها، فالمحكمة التى كان يفترض بها أن تكون واحدة من أقوى أدوات تنفيذ العدالة الدولية، أصابتها تلك العدوى المزمنة التى تعانيها كل أدوات المنظومة الدولية الراهنة، ألا وهى الإزدواجية..

المحكمة التى تعد أول هيئة قضائية دولية تحظى بولاية عالمية، وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمى الحرب ومرتكبى الفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشرى، تحولت بفعل فاعل معلوم إلى أداة لمعاقبة كل من هو غير غربى، بينما يفلت المجرمون الحقيقيون والذين يجاهرون، بل ويتفاخرون بجرائمهم ليل نهار، من أى عقاب.

تقول الأخبار الواردة من جنوب أفريقيا، إن رئيسها أرسل يطلب من المحكمة إعفاء بلاده من إلقاء القبض على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، خلال حضوره قمة مجموعة «بريكس»، التى تستضيفها جنوب أفريقيا الشهر المقبل، فبحكم عضوية الدولة الأفريقية فى المحكمة فإنها ملزمة باعتقال أى شخص تصدر بحقه مذكرة توقيف من المحكمة، والرئيس بوتين صدرت ضده تلك المذكرة على خلفية اتهامه بـ «التهجير القسرى لمجموعة من أطفال أوكرانيا» نتيجة الحرب الدائرة حاليا!

ودون الدخول فى تفاصيل الاتهامات وتسييسها الواضح من جانب المحكمة الجنائية، بل ومن كل المنظومة الدولية التى تزعم أنها تعمل من أجل إرساء حقوق الإنسان، فإن العديد من الأسئلة يجب أن تُطرح فى هذا الصدد: فأين المحكمة الجنائية من جرائم حرب واضحة ارتكبتها جيوش الدول الغربية فى العديد من دول العالم، ولماذا لم تصدر أية مذكرات توقيف بحق هؤلاء الذين تسببوا فى سفك دماء مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء؟ هل تجرأت المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرة توقيف بشأن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، الذى غزا أفغانستان والعراق دون أى سند من الشرعية الدولية؟ ولماذا لم توجه المحكمة اتهاما يذكر لتونى بلير رئيس الوزراء البريطانى الأسبق، الذى اعترف بعد سنوات من تخريب العراق بأنهم ذريعة الغزو بحثا عن أسلحة دمار شامل كانت «ملفقة»؟! وأين المدعى العام للمحكمة من كل الجرائم التى ارتكبتها قوات الاحتلال الغربية فى العراق، ومنها سجن «أبو غريب» الذى تم توثيق الجريمة بالصوت والصورة، وإلى اليوم لم يلق المسئولون عنها أى عقاب، واكتفت واشنطن بإحالة المجندة التى قامت بالتعذيب بنقلها إلى عمل إدارى؟!
وإذا كانت الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم وفق مبادئ وقواعد القانون الدولى وميثاق المحكمة الجنائية الدولية، فلماذا لم نر محاكمة واحدة لمسئولى قوات الاحتلال الإسرائيلية التى ارتكبت - ولاتزال - عشرات المذابح ضد الشعب الفلسطينى وغيره من الشعوب العربية، دون أن نرى محاولة واحدة لإدانة إسرائيل على جرائمها، بل تتعرض السلطة الفلسطينية للضغوط حتى لا تحرك الدعاوى أمام المحكمة، بينما يمكن للمدعى العام، إن كان حقا يبتغى إقامة العدالة، أن يفتح تحقيقا فيما يراه جرائم ضد الإنسانية؟!

أعرف تماما - كما تعرفون - الإجابة، لكنها فرصة للتنويه بأن استمرار تلك المنظومة الدولية المعوجة بات أمرا صعب الاحتمال، وانفراد دولة أو معسكر معين بالتأثير على الساحة الدولية أفرز الكثير من السلبيات التى تُعجل بانهيار هذا النظام الدولى «الأعرج».

ولعل ذلك أحد أسباب استعار الحرب فى أوكرانيا، فالجميع يدرك أن نتائجها ستحدد مستقبل النظام الدولى برمته، ومن بينها مصير تلك الازدواجية التى شوهت وجه «حقوق الإنسان» فى العالم، وأساءت لسمعة العديد من المؤسسات الدولية، ومنها المحكمة الجنائية الدولية.