خارج النص

... هذه بضاعتهم رُدت إليهم!

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

الأزمات هى أفضل ما يكشف الحقائق، ويفضح المواقف الزائفة، أما الخطاب المعسول والكلمات المنمقة، فغالبا ما تكشف وراءه كذبا كبيرا وكثيرا.

وهكذا فضحت الأزمة التى عاشتها فرنسا خلال الأيام الماضية تلك الإزدواجية والعنصرية الغربية التى طالما حاول «الغرب المتحضر» إخفاءها بالتستر وراء الكلمات الكبيرة والمصطلحات الفضفاضة، والمخادعة أحيانا، مثل الحرية وحقوق الإنسان، لكن عند أول أزمة تسقط الأقنعة البراقة، وتتجسد الصورة الفاضحة للعنصرية ومشاعر الكراهية الكامنة فى العقول والقلوب.

لعقود طويلة صدّر لنا الغرب حديثا جذابا عن قيم الحرية، والحرية بالفعل هى أسمى ما يمتلكه الإنسان، بل هى الميزة التى منحها الله له ليختار مصيره، ويحدد مساره، لكن هل تلك الحرية هى نفسها الحرية التى أقنعنا بها الغرب؟ 

هل الحرية هى فوضى سب الأديان والاستهزاء بالأنبياء، وحرق الكتب المقدسة تحت سمع وبصر وحماية أجهزة الدولة، وممارسة كل صور الشذوذ والانفلات الأخلاقي، والدفاع عن تلك الممارسات، ثم العويل بعد ذلك عندما يكون هناك رد فعل على مثل تلك الممارسات، حتى لو كنا ندين دائما استخدام العنف للرد؟

هل من الحرية استضافة الإرهابيين والمتطرفين من كل حدب وصوب وتقديم الدعم والحماية لهم، بل وتوفير المنصات التى يبثون منها سمومهم بزعم حماية حرية الرأى والتعبير، ثم الصراخ الآن بعدما استفحل أمرهم وقويت شوكتهم، بأن هؤلاء باتوا خطرا على الغرب وحضارته.. فمن أتى بهم ودعمهم ومولّهم؟!
هل من قيم الحرية أن تحتل الدول الغربية شعوبا فى مختلف قارات العالم، وبخاصة فى أفريقيا، ولعقود طويلة تستنزف ثرواتهم وتستغل أراضيهم وتحتكر تجارتهم، وعندما يقرر المحتلون الخروج من تلك البلاد يتركونها قاعا صفصفا، لا يوفر فرصا للعيش كتلك التى يحظى بها المنعمون فى جنة الغرب بعدما شبعوا من امتصاص دماء الفقراء، وعندما يجد أولئك المحبطون اليائسون طريقا - ولو كان غير شرعي- نحو الجنة الغربية الموعودة، لا يجدون سوى الرفض والطرد أو حتى إعادتهم إلى عُرض البحر ليواجهوا مصيرا مجهولا، فالمهم أن يموتوا بعيدا عن الأراضى الأوروبية المقدسة!!

هل من حقوق الإنسان أن تتدخل الدول الغربية فى شئون معظم دول العالم، تحتل الأراضي، وتصطنع الانقلابات، وتشعل الحروب الأهلية، تستثمر فى الأزمات، لتجد شركات أسلحتهم وخبراءهم ومستشاريهم فرصا بمليارات الدولارات، ولتستمر هيمنتهم على العالم لأطول فترة ممكنة؟!

هل من الحرية أن تختلق الدول الغربية أنظمة اقتصادية تضمن أن يدور الجميع فى دائرة مفرغة، تتحكم عملاتهم فى اقتصاديات العالم، وتدير مؤسساتهم المنظومة الاقتصادية التى تضمن ألا يستطيع أحد الخروج من دائرة التبعية، ودوامة الديون التى لا تنتهي، فيتحول الاستعمار القديم إلى آخر جديد عبر أدوات الاقتصاد الناعم؟!

هل من المنطقى أن تتحول تقارير حقوق الإنسان إلى سيف مسلط على رقاب دول وشعوب، مطالبة دائما بأن تفكر وتتصرف وفق المقاييس الغربية، وأن تفهم الحرية والديمقراطية وفق منظور دول الشمال، وأن تسمح بالتظاهر والتخريب على أراضيها، ولو تجرأت واتخذت أى إجراء لحماية أمنها فقائمة الاتهامات بأنها «دول قمعية ديكتاتورية» دائما جاهزة؟!

 لكن عندما تواجه دولة غربية تظاهرات أو احتجاجات ضد عنصرية أجهزة الدولة وعنفها غير المبرر ضد مواطنين يحملون جنسية تلك الدولة، ولكنهم من أصول مغايرة، يتبدل الموقف تماما، فتصاب تقارير حقوق الإنسان بالخرس، ويتحول الأمن إلى أولوية، ولا عزاء لحقوق الإنسان!!

قائمة مظاهر الإزدواجية الغربية طويلة ولا تحصيها سطور، لكن الأزمات التى يعانيها العالم اليوم وتواجهه الدول الغربية ليست سوى جزء من بضاعتهم التى رُدت إليهم، إن كانوا يعقلون.