رحلة فى حضن جبل الطير بسمالوط

المسيح فى الصعيد| «الأخبار» تتبع خط سير العائلة المقدسة بجنوب مصر

المسيح فى الصعيد
المسيح فى الصعيد

3 أيام قضتها العائلة «فى الهروب» بمغارة الأمنيات

«كف» المسيح ينهى مؤامرات الساحرة الشريرة

«هيلانة» شيدت الكنيسة قبل ١٧ قرنا.. وأسرار أعمدة الـ ١٢ تلميذاً

مصر مهد الديانات، اختصها المولى عز وجل بروحانيات خاصة تجعلها فى كفالته إلى يوم الدين..

كانت رحلة العائلة المقدسة إلى مصر أحد هذه الروحانيات التى هبت على أم الدنيا بأكملها لتجعلها فى رباط إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فمنذ أن وضع السيد المسيح قدميه على أرض مصر هو ووالدته السيدة العذراء مريم، حلت البركة والخير على جموع المصريين.

وأصبحت مزارا لكل الجنسيات من مختلف دول العالم، وموطأ لكل الراغبين والحالمين فى الحصول على لحظة تجلى وسمو فى الروح، وذلك من خلال زيارة مسار رحلة العائلة المقدسة فى مصر..»الأخبار» قضت 120 ساعة لرصد مسار تلك العائلة فى صعيد مصر بمحافظتى المنيا وأسيوط، وإليكم الحلقة الأولى من رصد مسار العائلة المقدسة.

ترددت كثيرا عند كتابة تلك المقدمة، لم أجد الكلمات التى تصف روعة هذا المشهد، قمة الجبل تجعل المكان يعبق بطاقة روحانية استثنائية، هذا الارتفاع الشاهق جعله يتميز بمناخ معتدل معظم فترات العام،تلك السماء الصافية والشمس الساطعة، تملأ نفوسنا بالسعادة، على مرمى البصر تجد نهر النيل متدفقا فى شريانه فى مشهد تعجز الكلمات عن وصفه.

ما أجمله هذا المكان، رؤية الأغنام وهى تلعب فى تلك الربوع الخضراء الواسعة، تشعرك بفرحة كبيرة، وكأنك تنظر إلى لوحة فنية مفعمة بالحياة، إنه دير السيدة العذراء جبل الطير الذى يقع فى قلب مركز سمالوط بمحافظة المنيا، الدير الذى يتميز بسحر خاص يجعله درة استثنائية فى تاج الجمال الخلاب، حيث جاء موقعه رمزاً للسمو فوق هضبة الجبل ويبلغ ارتفاعه 100 متر.

«الأخبار» داخل دير جبل الطير لرصد الموطأ الأول للسيد المسيح وعائلته فى أرض صعيد مصر.

271 كيلو متراً أى حوالى 3 ساعات ونصف الساعة هى المسافة التى قطعناها من القاهرة إلى محافظة المنيا بالقطار برفقة زميلى المصور، كان الشوق والشغف لزيارة مسار العائلة المقدسة هو الدافع لى فى هذه الرحلة، وصلنا إلى المنيا ومنها إلى دير جبل الطير فى مركز سمالوط ويبعد عن المحطة حوالى 37 دقيقة.

الساعة 6.45 دقيقة صباحا ونحن فى الطريق إلى الدير طرق جيدة للغاية إلا أنها تخلو من العلامات الإرشادية لاسم الدير أو مكانه أو المسافة المتبقية، لم نجد سوى لوحة استرشادية كُتب عليها مسار العائلة المقدسة مع سهم فى إشارة للطريق الذى نمر به، فى هذه اللحظات كنت أستعيد قراءتى عن المكان خلال التحضير لتلك الرحلة، ومع دقات السابعة صباحا كنا قد وصلنا إلى مدخل الدير، عبرنا طريقا ممهدا طويلا يمتد وسط الصحراء خلا من أى مارة، وعند وصولنا إلى البوابات الرئيسية، وقفت أتطلع الى الدير الذى يحتفظ بالكثير من تفاصيل الرحلة المقدسة.

تسارعت دقات قلبى وارتفعت أصواتها، لم تكن الرهبة هى السبب فلا مكان لها فى أى دار عبادة، بل كانت ناتجة عن جمال المنظر الخلاب الذى يطل عليه الدير، تساءلت فى مخيلتى: ما هذا الجمال؟! كنت اسمع مرارا وتكرارا مقولة «الماء والخضرة والوجه الحسن» تتردد حولى فى أغلب أحاديثنا، لكنها هنا حقا أمام عينىّ حيث اجتمع الماء والخضرة والراحة النفسية، وبين كل هذا الجمال والغوص فى أفكارى واندهاشى كنا قد وصلنا إلى بوابة الكنيسة الأثرية أوقفنا كمين شرطة التأمين وتساءل عن سبب الزيارة ربما لأننى مسلمة محجبة أو الوقت باكر جدا او أنه إجراء معتاد مع كل زوار الجبل، فأخبرته أن لدينا موعدا سابقا للزيارة، فسمح لنا وبعد عدة خطوات كان القس ثاؤفيلس القمص متى، راعى كنيسة السيدة العذراء بدير جبل الطير بانتظارنا رحب بنا بابتسامته التى تمدك بالتفاؤل، مررنا عبر بوابة لنجد أنفسنا داخل إحدي أقدم الكنائس الأثرية فى مصر.

أمام الباب الداخلى للكنيسة يجلس عجوز يحمل بين يديه «القربان» وهو خبز يتم تحضيره وخبزه دون خميرة ويتم توزيعه عقب قداس الصلوات على الزائرين وأثناء الزيارات خلال اليوم، خلعنا الأحذية وخطينا أولى خطواتنا، ورغم وجود عدد من المواطنين داخل الكنيسة إلا أن الهدوء والصمت يعم أرجاء المكان كل فى حاله يتضرع فى ملكوت الله بينهم من يناجى الله لتحقيق طلبه أو أمنيته بنجاح أبنائه او سعادته الزوجية أو شفاء والديه والمرضى، وهناك من يطلب الرزق الوفير فى الأبناء والمال.

المغارة المباركة

التقط أطراف الحديث القس ثاؤفيلس قائلا: هنا قضت السيدة العذراء 3 أيام بين أحضان هذا الكهف الصخرى أثناء رحلة هروبها إلى مصر من بطش الرومان، وكان يشير إلى مغارة صغيرة لم تتجاوز مساحتها متر× متر فى حضن الجبل، وعند دخولها يجب أن تهبط برأسك قليلا لتغزو هذا المكان الذى يتمتع بروحانياتٍ خاصة، وبمجرد أن تطأ قدماك المغارة تجد رهبة غريبة، وخشوعاً لا تستطيع وصفه الكلمات، هنا بين أحضان هذه المغارة تشعر وكأنك لا تريد العودة إلى العالم الخارجى تتمنى أن تمضى بقية حياتك بين جدرانها المنحوتة فى الجبل، يتوسطها أيقونة السيدة العذراء والسيد المسيح فى مشهد يمنحك السلام الداخلى، التقطنا صورة برفقة القس ثاؤفيلس داخل المغارة التى تم اكتشافها فى القرن الرابع الميلادى، لأنها كانت غير معروفة فى الثلاثة قرون الأولى إلى أن حضرت الملكة هيلانة، خرجنا إلى حصن الكنيسة وهنا قاطعنا أحد الزائرين لأخذ بركة الأب الكاهن.

تحركت بخطواتٍ هادئة داخل أرجاء الحصن دارت عيناى فى المكان بنظراتٍ تفقدية، إلا أن فى ذهنى تدور العديد من الأسئلة ابحث عن الإجابة عنها متى أنشئت هذه الكنيسة، وما حكاية كل هذه الأعمدة والآبار داخل الحصن؟ عاد الأب ثاؤفيلس إلينا وبدأت فى سرد أسئلتى فنظر إليّ وقال «نشرب حاجة الأول وبعدين هشرحلك»، فابتسمت وقلت له شكرا على كرم الضيافة، ولكن فضولى لن ينتظر.

هنا ابتسم وقال: إن الكنيسة والمغارة والآبار جميعها منحوتة فى الجبل ويحيط بها ١٢ عمودا منحوتا، وذلك بجانب وجود عدد من المصاطب لجلوس الشيوخ الرهبان بجوار الحائط، ويوجد جزء من الكنيسة أمام الهيكل المنحوت فى الصخر، سألته لماذا 12 عمودا قال لأنها ترمز إلى تلاميذ السيد المسيح من الحواريين، وأثناء الحديث لفت انتباهى أن داخل أحد الأعمدة «جرن معمودية» أشرت اليه وقلت ما هذا؟

قال هذا جرن المعمودية كان قديما يتم تعميد الأطفال فيه وأشار الى أرضية المكان  وبجواره بئر تصل عمقها إلى 7 أمتار يتم تصريف المياه بداخله، ومع تطور الزمن قام الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط بتعمير منطقة جبل الطير لجعلها مزارًا سياحيًا لجذب الزائرين من جميع أنحاء العالم، وقام ببناء سبع معموديات جديدة لتقوم بخدمة الزوار فى الأعياد حيث يأتى للزيارة والتبرك حوالى ٢ مليون زائر فى عيد العذراء الذى ينتظره بعض المسيحيين لتعميد أولادهم وبناتهم.

الكنيسة الأثرية

كان الجميع بالدير يستمتع بشرح الأب الكاهن لمعالم الكنيسة وينظرون إليه بنظرات اعجاب بتاريخ رحلة العائلة المقدسة، سريعا عاد الأب ثاؤفيلس ليسرد لى حكاية نشأة الكنيسة مبتسما وهو يقول إن المغارة التى نراها الآن كانت موجودة فى الجبل ولجأت إليها العائلة فى القرن الأول، ومكثوا بها ثلاثة أيام، وأول ما علمت الملكة هيلانة، والدة الملك قسطنطين، أن العائلة المقدسة أقامت فى هذه المغارة، بدأت تتبع خط سيرها.

حتى وصلت إليها، وقامت ببناء كنيسة السيدة مريم الأثرية عام 328 ميلاديا، وهى عبارة عن كتلة صخرية منحوتة فى الجبل، بما فيها الأربعة حوائط والاثنا عشر عمودا، وأثناء الحديث قاطعنا أحد الزائرين لسؤال الأب عن فتحة مستديرة تتوسط أرضية المكان تم غلقها بغطاء زجاجى اجابه قائلا إنه حوض «اللقان» ولكونه مسيحيا عرف ما هو اللقان، انتظرت حتى أنهى كلماته لأقوم بسؤاله عن معنى الكلمة فأوضح أن «اللقان» اسم يونانى للإناء الذى يوضع فيه الماء للاغتسال، وتستخدم الكنيسة صلوات طقس اللقان فى عدد من المناسبات، لأنها ترمز لذكرى العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلاميذه فى خميس العهد بأسبوع الآلام.

التقطنا بعض الصور وابتعدنا عن الحصن دون أن نخرج من الكنيسة، وصلنا الى بئر تحظى بعناية خاصة وهى مضاءة من الداخل، وعرفت أن عمقها حوالى 15 مترا وكانت تستخدم لتخزين المياه ومازالت توجد به مياه حتى الآن، وأشار الأب ثاؤفيلس الى باب خشبى فى الخلف من القرن التاسع عشر، مزين برسوم قبطية أوضح أنه حامل أيقونات للاثنى عشر تلميذًا وبعض الرموز القبطية..

الوقت كان ممتعا حقا هنا اختبأت السيدة مريم وطفلها الرضيع 3 أيام كاملة، رؤية الدير ومعايشة أجوائه الروحانية ذات الطبيعة الخاصة أصابتنى براحة نفسية بالغة، لم اتوقعها، همسات كانت تخاطر ذهنى بين الحين والآخر.

خرجنا من الكنيسة وصعدنا عدة درجات للوصول إلى الطابق الثانى الذى خلا من الزائرين لكنه يحمل بين طياته عدة رسومات لرحلة العائلة المقدسة، ويحيط بهذا الدور سور خشبى تستطيع من خلاله النظر إلى حصن الكنيسة، ومنه إلى الدور الثالث وهنا  تستطيع النظر إلى هذا الجمال المنظر الخلاب مشهد الأراضى الزراعية الخضراء والأغنام ومجرى النيل والجبل سبحان الخالق الذي أبدع فى صنع هذا المكان.

طيور البوقيرس

خرجنا من بين جدران الكنيسة الأثرية وهنا جاءنى هاتف من والدتى للاطمئنان علىّ كالعادة، هنا لا أستطيع نهائيا التفكير فى عدم الرد، لأنها ستظل الإلحاح فى الاتصال وسأنال الكثير من المعاتبات، استأذنت وابتعدت عدة خطوات للرد على الهاتف ووصلت إلى سور ممتد أعلى الجبل يحيط بالدير ويبدو انه تم وضعه حديثا ليحمى الزائرين من السقوط من حافة الجبل، انشغلت عن المكالمة بالنظر إلى الأسفل، وجدت عدة درجات تصل بك إلى شارع يفصل الجبل عن الأرض الزراعية التى تطل على النيل، وقفت أتأمل مشهد الجبل مع الأرض الزراعية والنيل الأزرق..

المنظر الخلاب خطف عقولنا وأنعش مشاعرنا وداعبت نسمات الهواء أجسادنا، رغم أننا فى عز الصيف الذى تتنافس فيه درجات الحرارة والرطوبة للنيل من أهالى الصعيد..

يبدو أننى نسيت نفسى امام هذا الجمال لدرجة أن الأب ثاؤفيلس جاء ليسألنى «عجبك المكان؟»، ابتسمت وقلت له بصراحة فاق توقعاتى، وسألته عن سبب تسمية الدير باسم جبل الطير، لم يرد مباشرة بل طلب من أحد أبناء الدير جلب مقاعد ومنضدة وجلسنا ننظر الى هذا المشهد الربانى وعاد ليجاوبنى قائلا أطلق على دير العذراء اسم جبل الطير نظراً لأن الآلاف من طائر «البوقيرس» كانت تجتمع فيه وهو طير أبيض الريش يشبه ابو قردان، وله منقار طويل بلون سن الفيل وله أهداب حول عنقه، أوقفنا الحديث وتناولنا الإفطار على الجبل بارتفاع 100 متر تفصلك عنه 166 درجة سلم لتصل الأراضى الزراعية وتلهو بين الأغنام والأبقار التى تنطلق فى الارض.

الساحرة الشريرة

بعد الانتهاء من تناول الإفطار عاود استكمال حديثه عن اسم الدير، قائلا هناك عدة أسماء أخرى له منها: جبل الكف حيث يحكى التقليد القبطى رواية تقول إن العائلة المقدسة تعرضت لمحاولات قتل خلال وجودها بمخبئها بجبل الطير، حيث كانت تسكن المنطقة ساحرة ظالمة اعتادت فرض الإتاوات على المراكب التى تمر بالقرب من الدير، وفى حالة رفض أحد دفع الإتاوة كانت تقوم بإغراق المراكب الشراعية، لكن ظلم هذه الساحرة توقف بقدوم العائلة المقدسة، بعد أن حاولت الساحرة أن تنتقم من الطفل عيسى، وأمه السيدة العذراء، واستخدمت سحرها لإسقاط صخرة عليهما، لكن الطفل عيسى تصدى لها، و أشار بيده إلى تلك الصخرة تصلبت مكانها وطبع كفه عليها دون أن يلمسها، بينما سقطت الساحرة بالسلاسل الحديدية التى كانت تحملها من أعلى سفح الجبل وماتت، وعن تلك الصخرة يقال إن بعض الرحالة أخذوها خلال فترة الاحتلال الإنجليزى لمصر وتم وضعها فى أحد المتاحف بالخارج وهناك بعض الأقاويل الأخرى التى ترجح أن الحجر طُمس فى نهر النيل وليس له أثر.

أخذ نفسا عميقا مستنشقا الهواء الرطب واستكمل سُمى أيضا بـ «جبل البكرة» فيقول عنه على باشا مبارك فى أحد كتبه يوجد دير على سفح الجبل، وبه بكرة أو بكارة، فى أوائل القرن الـ١٣ الميلادى، وهى تشبه المصعد حاليا، لكنها كانت يدوية، تقوم برفع الناس من أسفل الجبل إلى الكنيسة من خلال صندوق خشبى.

مولد العذراء

عدة ساعات قضيتها بين أحضان هذا الدير على سفح الجبل كلماتى عاجزة عن وصف ما رأته عيناى سبحان مبدع هذا الجمال الساحر الذى يشمل: البحار، والأشجار، والجبال وغيرها، وقد خلقه الله تعالى لنا بأحسن صورة، لاحظ الأب ثاؤفيلس إعجابى بالمنطقة، فأكد هذا هو ما سعى إليه الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط طوال الـ 47 عاما الماضية، حيث يشهد الدير احتفالات «مولد العذراء» كل عام نهاية شهر مايو، ويقبل عليها المصريون المسلمون والمسيحيون والأجانب وسط فرحة عارمة.