«هوانم روض الفرج» قصة قصيرة للكاتب صلاح البسيوني

«هوانم روض الفرج» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني
«هوانم روض الفرج» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

«هوانم روض الفرج» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

جلس الأستاذ صفوت فى مكانه المعتاد على قهوة (أم كلثوم) وقد أخذ يستمع إلى تلاوة الشيخ (محمد رفعت) تنبعث من الراديو حيث اعتاد صاحب القهوة أن يستهل يومه كل صباح بمحطة القرآن الكريم قبل أن ينتقل إلى إذاعة أغاني أم كلثوم من خلال اسطوانتها التي يديرها طوال اليوم حتى تناسى الزبائن أنها تسمى (قهوة نور الصباح) وأطلقوا عليها اسم (قهوة أم كلثوم)

عندك شاي بالحليب سكر مضبوط للأستاذ صفوت .. هكذا كان نداء (القهوجي) على العامل الواقف أمام منصة الخدمة (النصبة) كما تسمى .. وقبل أن يصل إليه كان الأخير قد جهز المطلوب ووضعه فى صينية ألمونيوم مع كوب من الماء المثلج .. ليحمله (رفعت القهوجي) إلى تربيزة الأستاذ صفوت ويضعه فى حركة خفيفة عليها قائلا

صباح الفل يا أستاذ صفوت فينك؟ بقى لك كثير ما بتجيش ؟ أحنا قلنا انك مسافر كالعادة لما تختفي ؟ بس فيه زبائن قالوا بيشوفوك فى الحته ؟ أحنا زعلناك فى حاجه ؟ وإلا إيه العبارة؟ . كلمات سريعة .. طويلة .. ومتلاحقة أطلقها رفعت والأستاذ صفوت يتابعها بابتسامته المعتادة التي يقابل بها حديث الآخرين .. وهو يعلم أن طبع رفعت الاسترسال فى الحديث والإسهاب فى عرض وجهه نظره وفى النهاية يجيبه قائلا: أبدا يا رفعت ولا حاجة من اللي فكرت فيها الحكاية وما فيها أني كنت مشغول ومحتاج شويه راحة عشان أمارس حياتي اليومية

سأله رفعت: راحة عشان مشغول وإلا لا سمح الله راحه عشان الصحة بعافية ؟ أجاب صفوت : لا حقيقي راحة عشان مشغول البال.. دماغي مش ولابد .. ولازم تستجمع تفكيري وعشان كده كنت محتاج شويه راحة.. يعنى التوقف عن المقابلات حتى أستجمع شويه وقت أستطيع فيهم تجميع عقلي المشتت واستعادة التوازن.. وده هو الهدف المطلوب فعلا .. أما الصحة فهي بخير والحمد لله

تحرك رفعت من مكانه وهو ينظر لبعض رواد الصباح وقد بدءوا في التوافد وهو يقول : احنا بس بنطمن عليك يا أستاذ .. انت عارف غلاوتك عندنا قد إيه .. وبصراحة أنا تعودت عليك وبقلق لما تغيب دا أنت أستاذي في المدرسة وفي الحي .. لا وكمان في الحياة . وانطلق مغادرا وقفته وهو يصيح من بعيد : عندك واحد شاي في الخمسينة للحاج عبد السلام مع شيشة عجمي واتنين قهوة على الريحة لعم على وعم سيد وواحد ينسون للشيخ عبد الله .

ابتسم الأستاذ صفوت وهو يسمع تلك النداءات بالطلبات فقد حفظ في جلسته هذه أمزجة كل رواد القهوة المعتادين أمثاله في جلستهم الصباحية أو المسائية .. حيث لكل منهم عاداته في الطلبات التي يطلبها ويسمعها حين ينادي بها رفعت علي عامل النصبة . أخذ يرشف كوب شاي الصباح وهو يسترجع حواره مع رفعت الذي أعاد إليه التفكير مرة أخري فيما شغل باله الفترة الماضية .. شلة الهوانم كما أطلق عليهم في عقله .. أخذتهم حياتهم الجديدة إلى حيث أصبحت الأصول تتلون لتتحول إلى علاقات عامة .. والواجب يلتوي عنقه ليتحول إلى المظاهر الاجتماعية .. وصلة الرحم تصبح قطعة لبان يمكن استخدامها لإضافة نوع من الجاذبية للأحاديث .

 

قرر الأستاذ صفوت أن يستعيد ما دار بذهنه وعقله ووجدانه في الأيام الماضية حتى يتأكد من أن ما وصل إليه من فكر هو الصواب .. فكان لابد من أن يعود بفكره إلى شريط الزمن حيث يري جاره المهندس ( سليمان ) عريس يزف في منزلهم .. وأهل الحته من حوله يباركون زواجه وقد شاركهم هو هذه الفرحة. ويرى (طلبه) أبن الحته وقد تخرج من الجامعة والتحق بالعمل ملحق تجاري بوزارة الخارجية ومن يومها وأهل الحي يطلقون عليه أسم (السفير) .. وتنتقل الصورة سريعة ليراه في حفلة زواجه التي عاشها معه كل أهل الحته والأصدقاء وكانت فرحتهم ليلتها لا تقدر ولا توصف .. ليله سهر الحي حتى الصباح . والست (الدكتورة) كما يطلق عليها حبايبها من أهل الحارة .. حكيمة في أفعالها وتفكيرها .. طبيبة في أقوالها وأعمالها .. تنال حب الجميع بحسن صفاتها مما جعل الناس يطلقون عليها منذ صباها (الدكتورة) .. حتى عندما أشتد عودها .. وتدرجت في تعليمها وأصبحت مستشارة في وزارة العدل بأحد دواوينها الحكومية .. لم يتراجع الناس عن لقب الست (الدكتورة) الذي استحقته ـ ولا زالت ـ بجدارة . وأخيرا الهانم (المديرة) بنت الحتة .. التي تربت وترعرعت بين جوانبها .. الكل يحيطها بعنايته ورعايته .. والكل يحبها ويحب حديثها ويسعد بجلستها .. وتكبر معهم لتصل في وظيفتها إلى مركز مديرة إحدى إدارات وزارة السياحة .. ولا يزال أمامها الكثير لتحققه بطموحها ! .

 

كل هؤلاء الأشخاص أو الشخصيات هم محور همومه خلال الفترة الماضية .. عاش معهم .. وعاشوا في وجدانه .. حتى أصبحوا أفراد عائلته .. يعيشوا معه أحداث عمره .. ويشاركهم أفراحهم وارتقائهم في سلم الحياة .. عائلته التي ما ترك فرصة إلا كان معهم .. وفرحة إلا وكان مشاركهم إياها .. يسبقهم الخطى في الوصول إلى أحدهم حين الفرحة .. ويقفز إلى جانبهم حين تكون هناك مشاركة في أي حدث .. وهذا الفعل يؤديه بكل سرور وأرتياح .. بل يعتبره مصدر سعادة له . إذن ماذا حدث ؟ وماذا يشغل تفكيره ؟ .. أو يعكر صفو هدوءه .. أو يثقل صدره في الأونه الأخيرة .. ينظر حوله ليجد العائلة الكبيرة وقد تحولت إلى عائلة (تيك أوى) أو عائلة (كنتاكى) علاقاتها تحولت إلى حيث تكون الأضواء مبهرة .. وأخبار المجتمع (الراقي) تسود جلسات الهوانم وتسيطر علي أحاديثهم التليفونية كما سيطرت على عقولهم.

 

شلة الهوانم تتكون من الهانم (زوجة المهندس سامح) الذي وصل إلى درجة وكيل وزارة الصناعة وانتقل إلى خارج روض الفرج بسكنه ولكنه لم ينتقل بعقله وقلبه .. وهو مشغول دائما في العمل يترك للهانم تنظيم مجاملاته الاجتماعية . والهانم (زوجة السفير) حيث لا تكاد قدمه تستقر إلا ويرحل في رحلة أخرى مما يجعل منه دائما ضيف في الجلسات والحوارات فتنوب عنه اجتماعيا باتصالاتها مع الأخريات وتبادل الأخبار وحضور المناسبات إلى آخره .

 

والهانم (الدكتورة) التي خرجت في بعثة إلى إحدى الدول الغربية لتغيب عنا سنوات طوال عادت بعدها بفكر جديد قد سكن عقلها وربما أثر علي نعومته وطيبته وجعل في بعض أفعالها طعم الدواء المر مما جعل البعض يرفض هذا الدواء! . والهانم (الست المديرة) التي كانت فراشة الجلسات وأنيستها .. ثقلت حركتها وأفعالها .. ربما كان ذلك من تأثير المركز الجديد الذي شغلته أو من تأثير الرفقة الجديدة التي شغلت مجلسها وأحاديثها التليفونية .. حيث تمضي معهم الوقت في حوارات لمتابعة آخر الأحداث . الهوانم تناسوا أن بدايتهن روض الفرج ..

 

وأحداث حياتهن بدأت من هناك .. وعمرهن تسرب من بين أيديهن عبر دروبه .. وقد عاش معهن وبينهن وبهن تلك الحياة .. وسار في دروبها بجانبهن يعلم ويربي أجيال حتى أحيل إلى المعاش وهو على درجة مدير عام بوزارة التربية والتعليم .. ولا يزال في الطريق بقية جهد وعرق يبذله في رعاية أبناءه ليصل بهم إلى أعلى الدرجات والمناصب حتى يطمئن عليهم مهما ارتفعت به الأمواج أو ارتفعت فوقه .. يجاهد في السباحة لاستكمال الطريق والوصول بهم إلى شاطئ الأمان .. ولترسوا سفنهم في موانيها .. وحينئذ تستقر سفينته في طريقها هادئة حتى الرحلة الأخيرة

 

 . ومنذ فترة بدأت أخبار (الهوانم) تقل في وصولها .. واتصالاتهن به قد انقطعت إلا إذا اتصل بهن .. فى البداية لم يعطي الأمر أهمية علي اعتبار أنه قد اعتاد علي الاتصال دون ترك الأمور تحدد من يتصل أولا بمن ؟. وبدأت تصرفات الهوانم تلفت نظره حين كان يتصل داعيا الجميع إلى مناسبات هامة في حياته .. فيجد منهم الأعذار والاعتذارات .. وهو يرجع ذلك إلى مشاغلهن أو مشاغل الأزواج ذو المناصب والمهام الجسيمة الملقاة علي عاتقهم .. فهم يحملون مسئولية هذا البلد ! ـ كان الله في عونهم ـ وتطورت الأحداث مع تكرار المناسبات التي إما أن يعتذروا أو يحضروا ليجلسوا فى صمت وكأنهم أتوا لتقديم (واجب العزاء) أو في حوارات جانبية ويتناولوا المشروبات علي مضض ثم يرحلوا في عجالة

 

 . وعندما تشاء الظروف أن يتواجد في مناسبة ما عند إحدى الهوانم يجد الجمع في كامل عدده .. والجلسة في كامل زهوها .. والحضور في كامل لياقته البدنية والنفسية والروحانية .. ويجد نفسه في جلسة (هوانم ) بحق وحقيقي .. غريب بينهن يسمع أخبار العائلات تتناثر وتتساقط من شفاههن .. أشياء وقعت لم يعلم عنها .. وأحداث مرت دون معرفته .. وجلسات تمت دون مشاركته .. تأتيه أحاديثهن وحواراتهن الجانبية وقد حملت إليه كل الأخبار التي غابت عنه أو غيب عنها .. ليزداد إحساسه بالغربة عمقا .. ويرسخ لديه الشعور أنه أصبح غريبا بينهم . يتساءل في قرارة نفسه أهؤلاء نفس الأشخاص الذين ألجم الصمت ألسنتهم في حفل زفاف أحد أبناءه بعد اعتذارات كثرت وتخلف البعض عن الحضور؟ .. نفس العائلة التي تخلفت دائما عن حضور مناسباته لدواعي (أمنيه) أو(هوانميه) أم أن الشخصيات خرجت من عباءتها وانسلخت من جلدها وتناست جذورها وواجباتها الاجتماعية التي تندرج تحت مسمى صلة الرحم .. لتصبح اجتماعيات وجلسات من نوع آخر تحكمها جلسات الهوانم والأفكار الجديدة التي غزت عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم .. وجلساتهم التي تبدلت بتبدل المكان أو المكانة .. فقد ارتفعت مناصبهم وارتقت مكانتهم .. وتعالت نفوسهم .. وتحولت البوصلة لديهم إلى حيث الأضواء ..

 

فتناسوا الأهل إلا من (رحموا) .. وتناسوا الواجب والأصول إلا في من (رغبوا) .. وتناسوا أن العائلة لا يتغير معناها ومضمونها بتغير المكان أو المكانة .. لكن بتغير النفوس تتغير الأصول .. وتتيه الأرحام بين الزحام .. ولا يبقي سوى أحاديث الهوانم تحرك الزمان والمكان .. وتغير الكون والنظام .. بعد أن تغيرت النفوس من حال إلى حال . وهاهو قد علم أن الهانم (الدكتورة) ترقد في إحدى المستشفيات ليجرى لها عملية جراحية .. فهل يذهب لزيارتها أم يتذكر تهربها مرارا وتكرارا من الحضور عنده لأعوام مضت ضمن سلسلة من الاعتذارات التي قادتها الهوانم ونفذها الرجال العظام أصحاب السعادة والمهام الجسام .. شاغلي الدرجة الأولى من عربات القطار ولا يمكن أن يلتقوا بآخرين سوى من رضيت عنهم (الهوانم). ويصل إلى قراره الذي ارتاح إليه قلبه .. سيذهب فورا لزيارتها والاطمئنان عليها .. وسيداوم علي الاتصال بها .. ولن يقطع الأرحام بل سيصلها كما أمره الله .. ولن ينتظر أن تصلها هوانم روض الفرج .