محمود الورداني يكتب : أمينة بنت الأكابر

محمود الورداني
محمود الورداني

منذ السطر الأول لكتاب «أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر» الصادر أخيرا عن دار المرايا وترجمة داليا سعودى، تشير المؤلفة سلمى مبارك إلى مسيرة الراحلة الكبيرة الاستثنائية على المستوى الفكرى والأكاديمى، حيث لم يكن اختيارها للأدب المقارن مجرد مجال علمى، بل بوصفه «محركا أخلاقيا للعلاقة مع الآخر» على حد تعبيرها.


 الكتاب يندرج ضمن مشروع شارك فيه كل من معهد العالم العربى بباريس وجائزة الملك فيصل بالرياض، ويهدف إلى التعريف بمائة من الباحثين والأكاديميين العرب والفرنسيين الذين أسهموا فى تنشيط أشكال الحوار بين ضفتى المتوسط خلال القرنين الماضيين. والمقصود تكريمهم بطبيعة الحال، فقد كرسوا حياتهم لهدف نبيل.


وإلى جانب تمهيد مجايلتها وصديقتها د. سيزا قاسم، يحفل الكتاب بدراسات ومقالات ومحطات فى حياة أمينة رشيد صاحبة الاختيارات الحاسمة وبنت الأكابر- حفيدة إسماعيل صدقى باشا مباشرة- التى انخرطت فى مطلع شبابها فى الحركة الماركسية السرية وانحازت للناس ضد طبقتها التى ولدت فى أحضانها وفى فمها ملعقة من الذهب، شأنها شأن عدد كبير من أبناء الأرستقراطية المصرية مثل نبيل الهلالى وإنجى إفلاطون ورياض سيف النصر وهنرى كورييل ومحمد سيد أحمد .. وغيرهم وغيرهم.


 وإذا كانت قد أفلتت من حملة الاعتقالات الضارية ضد اليسار عام 1959، إلا أنها واصلت طريقها واختياراتها الحاسمة، فقد قررت عام 1978  أن تترك فرنسا، حتى لو كان الثمن فادحا كلّفها حياتها الأسرية المستقرة، و كلّفها أيضا المكانة العلمية والمادية التى كانت تشغلها كواحدة من الأكاديميين المرموقين فى فرنسا بكاملها، حيث أدركت ألا مكان لها هناك، وعادت إلى مصر، لتنخرط فى الحياة السياسية الفكرية والأكاديمية بكل قواها.


ولحُسن حظى طبعا، التقيتُ بها فى وقت مبكر وتشرّفت بزمالتها فى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية المقاومة للتطبيع مع إسرائيل فى العام نفسه، وبالمصادفة سكّنا متجاورين فى الوراق، وكانت بيننا زيارات عائلية حيث تعرّفنا على إبنها الصبى مروان إبن العاشرة، الذى تفرغ تماما خلال إحدى زياراتنا للعناية بالطفلة الصغيرة لينا- ابنتى- التى كانت قد تعلّمت الجلوس لتوّها.


شرّفتنى أمينة رشيد بالصداقة التى توطدت بزواجها من صديقى الراحل سيد  البحراوى، وأتذكر أنها كتبت مقالا نشرته الهلال عن روايتى «طعم الحريق» وكنت سعيدا بإعجابها بالرواية، لأن المعروف جيدا عنها أنها لاتجامل.


ولم يكن مفاجئا أن يعتقلها أنور السادات فى حملة سبتمبر 1981 ضمن ما يزيد عن ألف وخمسمائة من الكتاب والمفكرين وأساتذة الجامعات والناشطين السياسيين. وبعد الإفراج عنها واصلت نشاطها السياسى والفكرى ولم تتوقف لحظة واحدة بعد ترأسها لقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة القاهرة، أو رئاستها لتحريرمجلة نور وفى الوقت نفسه كانت أعمالها النقدية فى مجال الرواية تتوالى سواء بالعربية أو الفرنسية، وإن كانت أعمالها بالفرنسية أكثر، إلى جانب ترجماتها، وعدد كبير من المقالات والدراسات وأجزاء من سيرتها الذاتية غير المكتملة للأسف، ولكم أتمنى أن يقوم تلاميذها بجمع هذا الإرث النادر من الدوريات المختلفة ونشره ولو فى مجلد واحد.


ومن بين أهم ما تضمنه كتاب د. سلمى مبارك الحصر - الكامل- فيما أظن لأعمال أمينة رشيد غير المنشورة مما يسّهل الحفاظ على تراثها  بنشره بين دفتى كتاب.


وأخيرا كانت أمينة رشيد نموذجا متفردا للاختيارات الحاسمة مع الاستعداد الكامل لدفع الثمن، وعاشت حياتها كما أرادت ووفق انحيازاتها، والسطور السابقة لاتعدو أن تكون عرفانا واحتراما لما قدّمته وهو كثير.