د. أشرف غراب يكتب: الأزمات العالمية وصداها على منطقتنا العربية

د. أشرف غراب
د. أشرف غراب

كما يُقال يُولد الأمل من رحم الأزمة.. ونحن لسنا بصدد أزمة واحدة فقط، وإنما قل عِدَّة أزمات مُتلاحقة لم يفصلها فاصلٌ، أو يتوقَّف إحداها ليترك الساحة للأخرى، وكأن العالم بأسره بين فكى مفترس لا يرحم، ولا نجاة من أنيابه إلا رحمة السماء، ومع ذلك كله، فإن من واجب الإنسانية السعى، وعدم اليأس والاستسلام، ولكل عقدة حل، ومازال بأيدينا وتحت بصائرنا حلول تبحث عمن يكتشفها، وهو ما نُحاول جاهدين عبر رؤيتنا للأمور عن قُرب فى دولنا العربية أن نستشف خُطاه، ونتلمس من حكوماتنا سرعة السير عليها للإفلات من تكدس الأزمات وتراكمها، ومن ثمَّ الاتجاه نحو البناء والتنمية.

وإذا نظرنا للمشهد الاقتصادى فى الواقع العالمى بأجمله بعد عدة سيناريوهات معقدة على مدار السنوات القليلة السابقة، نجد أن عام 2023 شهد ركودًا اقتصاديًا بدأ من الولايات المتحدة منتقلًا إلى المملكة المتحدة وتبعها الاتحاد الأوروبى، وبالطبع إلى المنطقة العربية التى لم تكن بمعزل عن الأزمات العالمية، وكان من أبرز العوامل المجتمعة لحدوث ذلك تفشى فيروس كورونا فى بكين ومنها إلى الجميع بسرعة البرق، والحرب الروسية الأوكرانية، والركود والتضخم العالمى، وأيضًا التشديد النقدى، وأزمة الطاقة العالمية.

وقد بات واضحًا جليًا تأثُّر غالبية الدول العربية من التشديد النقدى الذى نفَّذه البنك الفيدرالى الأمريكى، بزيادة أسعار الفائدة عِدّة مرات فى 2022 وبداية 2023 على الأموال الاتحادية، وتبعات ذلك على ارتفاع كلفة القروض والواردات المقوَّمة بالدولار، وإذا نظرنا للدول المنتجة للنفط، فحتمًا سنعلم أنها لم تكن تأثيرات خطر الركود بنفس الدرجة على اقتصاداتها بالنسبة للمستهلكة له منها، وقد نجحت الدول المنتجة للنفط فى أكثر من أزمة سابقة بإدارة التحديات الاقتصادية التى واجهتها، بفضل الملاءة المالية المطمئنة التى تتمتع بها بفعل عائدات النفط الخام والغاز الطبيعى كالسعودية، والإمارات، وقطر والكويت، والجزائر، والعراق، وعمان والبحرين وليبيا، ومع ذلك صنفت التوقعات المراكز الاقتصادية نمو الناتج المحلى الإجمالى بشكل طفيف لدول مجلس التعاون الخليجى.

وفى الوقت نفسه تواجه الدول المستهلكة للنفط حاليًا تحديات جمة، لأنها لم تتعافَ حتى اليوم من تبعات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، فعلى سبيل المثال مصر حرّكت عملتها هبوطًا أمام الدولار، وطلبت مساعدة صندوق النقد، بينما أخرى مثل الأردن والسودان ولبنان وتونس، فالواقع يحكى مدى استجابتها لهذه الأزمات الاقتصادية المتفاوتة القوة عليها، فمنها التى طلبت مساعدة الصندوق كتونس أيضًا التى تنتظر توافق الأطراف كافة داخل البلاد قبيل موافقة الصندوق، فيما شهد الأردن موجة احتجاجات وقودها ارتفاع أسعار الديزل.

وفرضية الركود تعني أن الدول العربية المستوردة للخام ستدخل عامًا آخر سلبيًا على المستوى الاقتصادى بحكم اعتماد جزء من النقد الأجنبى الوارد إليها من خلال العمالة المهاجرة، والتى قد تتأثر مداخيلها بالركود، ويُلقى الركود بثقل مالى على الأسر والشركات حول العالم، ما يعنى زيادة التقشف لتوفير النفقات الأساسية، والمحصلة تراجع السياحة الوافدة إلى العديد من الدول العربية بصدارة مصر الباحثة عن مداخيل للنقد الأجنبى، وتعتبر عائدات السياحة حتى قبيل الجائحة أحد أهم 3 عائدات لمصر من النقد الأجنبى، إلى جانب تحويلات العمالة المصرية فى الخارج، وعائدات الصادرات التى تحاول مصر رفعها يومًا بعد الآخر.

إن العديد من دول العالم، خاصة ذات الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة، بدأت تتحرك بالسرعة القصوى نحو الانخراط فى تحالفات قوية، لضمان حلول فعّالة لمشاكل نقص الغذاء والديون وغلاء الأسعار، وتتسابق الحكومات العربية بدورها فى مرحلة ما بعد كورونا إلى الدخول فى تكتلات تقيها مخاطر الأزمة الاقتصادية وانعكاسات تقلبات الأسواق الخارجية، وتُعد بريكس أكثر مجموعة اتجه إليها العرب بعد بداية الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أودعت الجزائر والسعودية ومصر طلبات رسمية للعضوية، وأبدت تونس والبحرين رغبتهما فى ذلك، كما أكدت الإمارات العربية المتحدة علاقتها الممتازة بالتجمع.

بالموازاة مع ذلك، طفا إلى السطح مشروع السوق العربية المشتركة خلال اجتماع لجنة الشئون الاقتصادية والمالية للبرلمان العربى بالقاهرة، وظلّت هذه السوق حبيسة أدراج الأنظمة المُتوالية على الحكم فى الدول العربية قرابة نصف قرن، وتحوّلت إلى حُلم شعوبها التى ترى أنه حان الوقت ليخرج هذا المُصطلح من دفاتر توصيات القمم والاجتماعات المُغلقة إلى الميدان، فقد يكون الحل الأقوى لمجابهة نكبات الوباء والحرب، كما بدأت بعض البلدان تعلن تخليها عن العملة الخضراء فى تعاملاتها الخارجية، ومعرُوف أنّه أحد انعكاسات حرب العملات، لهيب أسعار الغذاء والطاقة، ومن المخاطر التى يتم رصدها  تباطؤ نمو الاقتصادات العالمية، وارتفاع نسبة البطالة بالولايات المتحدة الأمريكية التى اختارت مواجهة أزمة التضخم برفع سعر الفائدة بالبنوك، وهو ما انعكس سلبًا على الوضع الاجتماعى هناك، نتيجة إحالة العديد من العمال إلى البطالة، إذ أسفرت عملية رفع سعر الفائدة عن بروز ما يُصطلح على تسميته الكساد التضخُّمى، ويُقصد به بطء التنمية الاقتصادية وارتفاع البطالة بشكل نسبى، وهو أسوأ الظواهر الاقتصادية التى يمكن أن تمُرّ بها أى دولة.

هذه العوامل وغيرها باتت تُنذر بتعقّد الوضع الاقتصادى بشكل أكبر على مستوى الدول النّامية خلال المرحلة المقبلة، كما أن هناك دولًا عربية ثرية بالمحروقات، على غرار بلدان الخليج كالإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية، سجّلت قصص نجاح مهمّة، لكنها بحاجة إلى وقت أكبر لتؤدى دور قاطرة الانطلاقة للعالم العربى،  والدول النامية أمام فرص لاستثمارات كبرى وتنويع التعاملات الاقتصادية والتحرّر من الهيمنة وولوج ميادين التصنيع بالطبع، والحل هو إنشاءُ مصرفٍ عربى، إلى جانب صندوق النقد العربى المُتواجد مقرّه بإمارة أبوظبى بالإمارات العربية المُتحدة، ليكون بديلاً تلجأ إليه الدول العربية قبل طرق أبواب المؤسسات الدولية، أو تأسيس بنك تنموى إقليمى يضاهى البنك الإفريقى أو الآسيوى أو اللاتينى.

أيضًا التحالفات الاقتصادية أراها أحد الحلول التى اختارتها الدول العربية لمجابهة مخاطر مرحلة ما بعد كورونا، وتواصل الحرب الروسية- الأوكرانية، كما أن ارتفاع أسعار القمح والذرة البيضاء والصفراء والأسمدة وكذا تكلفة الطاقة خاصة الغاز والنفط، كانت أحد انعكاسات هذه الحرب، كل ذلك يجر دول العالم اليوم خاصة العربية إلى التفكير فى التكتل للتعاون فى مجابهة المخاطر، فالتكتلات الجديدة تتيح فرصًا للدول النامية لتسجيل استثمارات كبرى وتنويع التعاملات الاقتصادية والتحرّر من هيمنة جهة واحدة، واختراق عالم التصنيع والانفتاح على كافة دول العالم وتطوير الحوكمة الاقتصادية وتعزيز التنافسية، ونيل فرص تمويل جديدة، ووضع حد للتّبعية.

أيضًا تجمع بريكس يوفر حلولًا عدّة للدول العربية خلال المرحلة المقبلة، فهو حصانة سياسية فى نظام دولى جديد، ومجموعة تمنح للمنضمين إمكانية الاستفادة من خدمات وسلع بأسعار تنافسية مُقنَّنة بعملات صعبة أخرى غير الدولار، كما تُوصف القُدرات الطاقوية للدول العربية بالرهيبة، إذ تتربع على 27 بالمائة من احتياطات العالم مجتمعة من الغاز، ونصف احتياطى النفط، وصناعة متطوّرة للبيتروكيميائيات بالإمارات وقطر والسعودية والكويت، وقدرات وازنة دوليًا للفوسفات بكل من الجزائر وموريتانيا والمغرب وتونس، والحديد بمصر وليبيا، ومؤهلات فلاحية ضخمة بالسودان وثروات لا تنضب، لكن تصطدم هذه الإمكانات الكبرى بعراقيل كابحة ومنها غياب وعي طبقات الشارع العربى.

وعن السياسات الحكومية بالدول العربية فى الأيام القابلة، فإنها بلا شك هى كلمة الفصل فى تنمية الموارد وجلب العملة الصعبة والاتجاه نحو التصنيع المحلى والدخول فى شراكات داخلية ودولية وفتح أسواق تجارية وبنوك محلية تكون بمثابة تيسيرات ومكملات لبعضها البعض، ومحاولة الضغط على الورقة الخضراء والتحرر منها، وتوحيد الرؤية المشتركة والعمل عليها جديًا، وهو ما وضح جليًا فى العلاقات العربية اليوم، ويدعو للتفاؤل مستقبلًا، ولربما كانت الصدمات الخارجية رباط وثاق اجتماعى وسياسى واقتصادى يصب في صالح الشعوب والدول العربية، وهو ما أراه يتحرك فى الاتجاه الصحيح وإن كان بوتيرة متباطئة.