د. نهلة راحيل تكتب : ما يحدث فى هدوء: التجريب وجماليات السرد

د. نهلة راحيل تكتب : ما يحدث فى هدوء: التجريب وجماليات السرد
د. نهلة راحيل تكتب : ما يحدث فى هدوء: التجريب وجماليات السرد

إن القصة القصيرة، بوصفها أبسط الأشكال لحكى الأحداث وأقصر الطرق السرد ما وقع، استوعبت العديد من مظاهر التجديد ودخلت ساحة التجريب منذ سبعينيات القرن الماضى تقريبا، فظهرت تجارب قصصية جديدة حاول مؤلفوها تجريب تقنيات جديدة تمكنّهم من تجديد مناحى السرد ، كاللغة والزمان والمكان والشخصيات والراوى وغيرها من مستويات سردية أساسية، وتتيح لهم فى الوقت نفسه فتح آفاق جديدة فى موضوعات القصص تتجاوز المألوف وتكسر أفق التوقع.

وعند الوقوف على تجربة الكاتب المصرى محمد سالم عبادة فى مجموعته القصصية «ما يحدث فى هدوء»، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة والحاصلة على المركز الثالث فى مسابقتها الأدبية عام 2021، نجد أنه قد عمد إلى التجريب فى آليات السرد وكسر القوالب التقليدية فى المضمون، محاولا خلق نص مختلف متجدد فى ذات الإطار الذى ينتمى إليه، أى فن القصة القصيرة التى تعتمد فى أساسها على وحدة الحدث وتكثيفه وسرعة توتره.


 وهو ما أدى إلى إبداع نصوص تستوعب الأساطير والخرافات والنوادر والحكايات الشعبية والدراما المسرحية والصور السينمائية والفنون التشكيلية فى عملية كتابية تسمح بالتداخل بين الأجناس رغم الاحتفاظ بالإطار العام ثابتا؛ حيث خرج الكاتب عن معايير القصة القصيرة بشكل ذكى وشيق وسلس يجعل القارئ فى عملية اكتشاف مستمر لما وراء النصوص محاولا الوصول إلى المعنى المضمر الذى يريد الكاتب إيصاله.


ومن أهم مظاهر التجريب التى اختبرتها المجموعة القصصية الحالية واعتمدها الكاتب فى نصوص عديدة منها، الاعتماد على الحوار الخارجى كمكون رئيس فى تشكيل بينة السرد عبّر الكاتب من خلاله عن أفكار الشخصيات وآرائها، ولذلك امتلك حضورًا قويًا بالمجموعة، وكانت وظيفته الكشف عن القضايا الفكرية والمواقف النفسية لدى الشخصيات، وهو ملمح حداثى يلقى الضوء على استفادة القصة من عناصر الشكل المسرحى وتوظيف تقنياته للتعبير عن الصراع.


فنجد، على سبيل المثال، قصصا كاملة قامت بنيتها السردية على الحوار بين الشخصيات مما جعل المتلقى يتابع الأحداث ويراقب حركة المتحاورين وكأنه يشاهد ما يحدث أمامه الآن هنا فى مشهد مسرحى ذى دينامية خاصة له إيقاع بصرى وسمعى مميز، كما وجدنا فى قصص: «دخان مبين» و«شناوي» و«مواء» و«الصفعة» و«الثمن» و«عبده الجامع» وغيرها من قصص أدت المقاطع الحوارية بها بعدا وظيفيا عبّر من خلالها الكاتب عن تطور الحدث وتأزم الصراع وقدم أبعاد الشخصية.


وجاءت تلك المشاهد الدرامية مُجسدة بلغة مكثفة وموحية تعكس الصراع وتمثّله فى شكل حوار بين شخصيات تتحدث لغتها؛ حيث جعل الكاتب كل شخصية تتكلم بلغتها الخاصة مما ساعد على الكشف عن طبيعة الشخصية وبيئتها ومكانتها الاجتماعية، فتباينت لغة الحوار بتباين طبيعة الشخصية وبيئتها وزمنها، ولا شك أن فى ذلك إيهاما شديدا بالواقعية.
فنجد مثلا «أم صالح» فى «الصفعة» تتحدث مع أبنائها لغتها العامية البسيطة المرتبطة فى الأساس بفضاء القرية المؤطر السردى لبعض قصص المجموعة: 
«-أم صالح: يا ضنايا يا ولدى! قل لى، انتو عندكم ترباس للباب؟ 
أيوب: طبعًا يامّا.
أم صالح: يبقى ماتنساش تقفله بنفسك كل ليلة يا ولدي، حتى لو كنت سهران مستنظر حد من زباينك، مين عارف يا ضنايا؟!
داود (يبدو الاستخفاف والسخرية فى لهجته): يووووه! وهوّ (حمادة) بِدع فى العيلة؟ ماجابوش من برّة والله. هاه. مش فاكرين اختكو (سيدة) وهيّ قدُّه، او اكبر شوية مش فاكر؟
صالح (يمدُّ رجلَه أمامه): آه. (سيدة) كانت مشكلة بصحيح». (ص 12)
كما يقدم لنا الحوار بين «إحسان» وابنة أختها فى قصة «الثمن» معالم الشخصيتين، ويعرض كثيرا من العادات والتقاليد الخاصة بالبيئة المكانية والزمانية فى الريف المصري، فحققت لغة الحوار تصعيدا دراميا ملحوظا بالنص، وعملت على جذب القارئ لمتابعة السرد:
«-تنادى الست (إحسان): «مين؟» 
يرد صوتٌ غليظ: «أوشوش الودع واقرا الطالع فى الكف والفنجان».
تبادلت (إحسان) نظرةً ضاحكةً مع ابنة أختها، قبل أن تُحنِيَ (أمنية) أطراف حاجبَيها الدقيقين متوسلةً: «والنبى يا خالة، أفتح لها الباب تقرا لى بختى جايز تشوف لى عريس!».
ضحكت (إحسان) وقالت: «افتحى لها».
أسرعت (أمنية) إلى الباب وجذبَته، لتبدُوَ من خلفه سيدةٌ قصيرةٌ فى عِقدِها السادس، تربط رأسها بمنديلٍ أسود كبقية ثيابها، ووجهها أبيض متغضِّن. أزاحت العجوز البدينة (أمنية) من طريقها ودلفت إلى منتصف الغرفة. كانت أماراتُ الهلع تبدو على وجهَى (إحسان) و(أمنية). بعد أن أطالت النظر إلى (إحسان) غير عابئةٍ بسؤالها المتكرر: «فيه إيه يا ست؟» 
استدارت بجسدها البرميلى إلى (أمنية) وقالت: «ناولينى كفَّك أقرا لك نصيبك». (ص 15)
وكانت درامية البداية واعتماد النهايات المفتوحة من أبرز مظاهر التجريب التى توضح انفتاح قصص المجموعة على الفنون الأخرى، وعلى رأسها المسرح، واستعارة مكوناته لإثراء المتخيل السردي؛ حيث جاءت البنية الدائرية للقصص لتؤكد على الشكل الدرامى الذى تبدأ أحداثه غالبًا من نقطة محددة تعود إليها فى النهاية فى حبكة تسمح بالتكرار مراتٍ لانهائية، كما أن النهاية ظلت مفتوحة على احتمالات عديدة، لا تعطى حلا للصراع ولا تعرف بمصير الشخصية، مما يؤكد رغبة الكاتب فى أن تُقرأ أحداث نصه ضمن صيرورة تاريخية، وأن تُربط دوافع شخصياته بعوامل تتخطى الظروف المجتمعية ولا تتعلق بوضع الشخصية أو أحوالها.
فعلى سبيل المثال، تبدأ قصة «نصف الكيس الملآن» بجملة تصعيدية «يصعب عليّا أشوفك فى الموقِف دا والله يا صاحبى» وتنتهى دون أن نعرف مصير المتحدَث عنه ودون ختام للأحداث، كما يثير التساؤل «أموت وأعرف مين الكلب اللى عملها» فى قصة «عبده الجامع» فضول القارئ لمتابعة السرد الذى ينتهى كذلك مفتوحا دون الإجابة على التساؤل المطروح، أو السؤال الذى يدور فى ذهن الشخصية فى بداية قصة «اللافتة» «أين اختفت اللافتة؟!»، ويترك القارئ يتابع سبل إيجاد إجابة السؤال حتى نهاية السرد.
يتكىء العالم القصصى فى المجموعة على أجواء أسطورية مميزة ومثيرة سواء على مستوى الحدث أو فى بنية اللغة، نلمح أصداءها من البداية فى استثمار الأساطير على اختلاف أنواعها؛ اليونانية والفرعونية وأساطير الشرق الأدنى القديم وغيرها، ما يختص منها بالخلق أو البعث أو العذاب أو صراعات الآلهة، وهكذا؛ حيث لجأ الكاتب فى بعض قصص المجموعة إلى مزج الأسطورة بالواقع كمحاولة للخلاص من التوتر والصراع والقلق، ولنفى الغربة والوحدة عن شخصياته المأزومة وإعادة تواصلها مع العالم.
نلمس ذلك بوضوح فى افتتاحية قصة «الأب والجثمان» التى يوظف فيها الكاتب أسطورة «ست» إله العواصف والصحراء، مع إشارات لحورس ورع وخوفو، وكأنه يرغب فى صناعة أسطورته الخاصة من رموز أسطورية معروفة، فالأسطورة فى النهاية ما هى إلا رواية تأتى انعكاسا لنظام اجتماعى معين أو قيم ثقافية سائدة فى منطقة ما وزمان ما. وكذلك فى استدعاء «أوريون» الجبّار وما يدور حوله من قصص مختلفة فى الأساطير اليونانية القديماء، وضفرها بالسرد المتخيل فى قصته «الكنز»،أو «هرمافرودَيت» ابن أفروديت وهرمس فى الأساطير الأغريقية فى القصة التى تحمل اسمه.  
لذلك كان من الطبيعى أن يتجلى التفكير الأسطورى فى قصص المجموعة فى تعرض كاتبها إلى الخرافات والحكايات الشعبية وغير ذلك من أساليب تعتمد التفكير الأسطورى وسيلة لها، حيث نجد اعتقاد الشخصيات فى الأولياء وكراماتهم وقدرتهم على حماية الأماكن، وكذلك التوسل بالرقية ونذر النذورة وزيارة المقامات وغيرها من عادات يلجأ إليها الناس لطلب الرزق أو الزواج أو الذرية أو توسل الحماية أو الدعاء بالشفاء، ملمحا سرديا تجريبيا فى بنية بعض قصص المجموعة.
تتضح تلك الممارسات فى نصوص عديدة بالمجموعة أبرزها «مواء» و«الصفعة» و«الثمن» و«حلوة» وغيرها من قصص تتوسل شخصياتها الأساليب الخرافية وتعتنق الأفكار الغامضة كوسيلة للتغلب على الأزمات. فـ«أم صالح» لا ترى فى النهاية حلا لمشكلة حفيدها سوى رقيته بعد أن عجزت عقول المتحاورين بالقصة - «الصفعة» - عن إيجاد تفسير منطقى لحالته غير المألوفة التى ورثها فيما يبدو عن عمته، فـ«أمُّ صالح (تميل على أذن أيوب وتهمس بعد صمت): ماتخافش يا (أيوب) على ولدك. بس اعمل زى ما نصحك اخوك (صالح). ابعته له الصبح. حيرقِيه». (ص14)
ويعد تغليب الملمح العجائبى واستعارة مقوماته أحد مظاهر التجريب التى انفتح عليها الخطاب السردى بالمجموعة بعد أن مارسه الكاتب واتخذه قالبا تنهض عليه بعض نصوص المجموعة، بهدف كشف الواقع المرير عبر مجابهته بنمط غير واقعى قد يصدم المتلقي؛ حيث تصطدم الشخصيات المأزومة بديستوبيا عالمها المأساوى الذى يغترب فيه الإنسان الحالى فى ظل التطورات العلمية الملاحقة والتغييرات التكنولوجية المذهلة التى ترافقها عادة ملامح الرجعية والبدائية المسيطرة على رغبات البشر وأنماط تفكيرهم. 
لتثير بعض القصص العديد من التساؤلات حول مصير الإنسان وحال العالم وحدود المعرفة الإنسانية، منها على سبيل المثال قصة «أبو ريماس» التى اختفى فيها الأب بالحمام تاركا زوجته وأخيه وابنته الباكية «نُحصى الاحتمالات. أيكونُ أخى قد قفزَ من الشّبّاكِ وواربه خلفه. أوه! لكنّ هذا يعنى أنّه انكسرت رقبتُه ومات من فوره، ثُمّ إن هذا ببساطةٍ غيرُ ممكنٍ لأنّ الشباكَ مغلقٌ بشبكةٍ من السلك الصُّلب! ... أيُمكنُ أن يكونَ الأبُ قد سقطَ فى عينِ قاعدةِ الحمّام؟! أعنى أن يكون قد تساقطَ فَضَلاتٍ بالفعلِ فى العين. لا أعرفُ سابقةً لهذا» (ص 54). ولكن اللغزَ يبقى غيرَ قابلٍ للحلّ بوضوح فيصاب المتلقى بالتردد- وفق تعبير تودوروف - حيث يجد نفسه أمام وضع فوق طبيعى وهو لا يعرف بشريا سوى القوانين الطبيعية، وهذا التردد هو ما يخلق التأثير الفنتازى.
نجد تجاوز المنطق والواقع واضحا كذلك فى القصة التى تحمل المجموعة عنوانها وهى «ما يحدث فى هدوء»، التى يهاجم فيها نبات البازلاء البشر ويحاول السيطرة على حياتهم، فـ «تدريجيًّا تسللت البازلاء إلى أكوام الفضلات البشرية المتجمعة فى الشوارع والمقاهى ودُور العبادة. حين عُدتُ إلى المنزل، كانت البازلاء وصلت إلى سقف الحمام، وسقف المطبخ، كانت والدتى نائمةً. خلعتُ ملابسي، ودخلتُ الحمام عاريًا تمامًا، بعد أن تأكدتُ مِن أنَّ الشَّقَّ الذى فى أسفل ظَهرى يضمّ ثلاثة أعوادٍ صغيرةٍ من البازلاء، نابتةٍ من جِلدي!» (ص 32) حيث تكسر الأحداث المألوف وتُحدث حالة من الدهشة نتيجة العلاقات غير الممكنة وغير المتوقعة بين الأشياء، كما أن تيمة القصة تستدعى فى الذهن الحكاية الخرافية عن «الأميرة وحبة البازلاء»أو «الأميرة الحقيقية» للدنماركى هانس كريستيان أندرسن (Hans Christian Andersen) من البارزين فى مجال كتابة الحكايات الخرافية على مستوى العالم. 


وقد وفّق الكاتب كذلك فى تجريب موضوعات غير نمطية وتوظيفها بما يخدم فكرة القصة، فيلقى الضوء على بعض مظاهر اضطراب الهوية الجندرية ويجسد شعور الشخصيات التى تعانى من حالة لا ارتياح أو قلق تجاه الجنس البيولوجى الذى ولدوا به، فعادة تكون الهوية الجندرية والدور الجندرى متوافقين لدى معظم الأفراد، ولكن أحيانا تُعبِّر الهوية الجندرية عن نفسها لاحقًا فى حياة الشخص بشكلٍ لا يتوافق مع جنسه البيولوجيّ لأسباب نفسية سلوكية أو لعوامل خارجية وبيئية.


وهى إشكالية عرضها الكاتب فى قصص مثل: «الدَرج» التى لم يكن يدرك بطلها «مصطفى» - غير المتزن ذهنيا- أن له ميولاً جنسية مثلية، وكذلك «شناوي» التى اتُهم فيها بطلها الذى تحمل القصه اسمه بأنه يقوم بممارسات شاذة وغير أخلاقية ضد تلاميذ المدرسة التى يعمل بها. ورغم أن تلك الإشكاليات قد تبدو فرعية ضمن السياق العام لقصص المجموعة، فإنها تتعلق فى الأساس بمشاكل عديدة يزخر بها المجتمع العربى كصراع الأجيال وفكرة التحرر وتقبل الاختلاف وتهميش الأنماط المغايرة دينيا وايديولوجيا وعقائديا ونوعيا، حيث لا تغامر المجتمعات العربية عادة لفهم طبيعة الآخر أو محاولة التعامل معه دون إدانة أو إهانة.


وهنا ينبغى أن نشير إلى أنه رغم أهمية عتبة الهوامش كعلامات بصرية لها وظيفة توضيحية وتفسيرية للمتن الحكائي، فإن استخدامها فى قصتين فقط من قصص المجموعة، وهما: «حلوة» و«كاريكاتير»، قد قيّد حرية القارئ وأوقفه عند تلك الإشارات النصية التى لم يعتد وجودها من بداية قراءة القصص، علما بوجود العديد من التعبيرات والمصطلحات فى قصص أخرى سابقة كانت تحتاج إحالة القارئ إلى تفسيرها والوقوف على معناها فى هامش أسفل الصفحة. وربما يرجع ذلك إلى تجميع قصص المجموعة على فترات زمنية متباعدة كما تشير التواريخ المسطورة فى نهاية بعضها.


وفى النهاية، يبقى أن نؤكد على بروز الطابع الذاتى فى بعض قصص المجموعة، ومنها قصص: «نصف الكيس الملآن» و«بين أصبعين» و«دانْدرَفْ»، حيث يمتزج الكاتب مع الشخصية أو بمعنى أدق يضفى عليها بعض من هويته أو تجاربه، فامتهان أبطال القصص لمهنة الطب وجريان أحداثها فى فضاء المستشفى قد يعلى من قيمة التخييل الذاتى (Autofiction)- بمصطلح الفرنسى دوبروفيسكي- بالمجموعة ولكنه لا يحولها بالتأكيد إلى سرد سيرذاتى (Autobiography) يرتكز إلى أحداث واقعية محددة فى حياة الكاتب، حيث يبقى التخييل الذاتى هو الممارسة التجريبية أو الحيلة الفنية التى استمد من خلالها الكاتب الآليات التى تتيح له الحرية فى بناء الأحداث، وتمكنه من استعادة تجاربه الذاتية وإعادة تأويلها وفق منظور جديد يقترب من/ يبتعد عن المرجع الواقعى الخاص بحياته.