كنوز| أيها البحر!

مصطفى صادق الرافعى
مصطفى صادق الرافعى

بقلم: مصطفى صادق الرافعى

إذا احتدم الصيف، جعلتَ أيها البحر للزمن فصلًا جديدًا يُسمَّى الربيع المائى، وتنتقل إلى أيامك أرواح الحدائق، فتنبت فى الزمن بعض الساعات الشهية كأنها الثمر الحلو الناضج على شجره، ويوحى لونك الأزرق إلى النفوس ما كان يوحيه لونُ الربيع الأخضر، إلا أنه أرق وألطف، ويرى الشعراء فى ساحلك مثل ما يرون فى أرض الربيع، أنوثة طاهرة، غير أنها تلد المعانى، ويُحِسُّ العشاق عندك ما يحسونه فى الربيع: أن الهواء يتأوَّه.

فى الربيع، يتحرك فى الدم البشرى سر هذه الأرض، وعند الربيع المائى يتحرك فى الدم سر هذه السحب، نوعان : هواء الربيع وهواء البحر، يكون منهما سُكْر واحد من الطرب، وبالربيعَيْن: الأخضر والأزرق، ينفتح بابان للعالم السحرى العجيب؛ عالم الجمال الأرضى الذى تدخله الروح الإنسانية كما يدخل القلبُ المحب فى شعاع ابتسامة ومعناها، وفى الربيع المائى يجلس المرء، وكأنه جالس فى سحابة لا فى الأرض، ويشعر كأنه لابس ثيابًا من الظل لا من القماش؛ ويجد الهواء قد تنزَّه عن أن يكون هواء التراب، وتخفُّ على نفسه الأشياء، كأن بعض المعانى الأرضية انتُزِعت من المادة.

وللشمس هنا معنى جديد ليس لها هناك فى دنيا الرزق، تشرق هنا على الجسم، أما هناك فكأنما تطلع وتغرب على الأعمال التى يعمل الجسم فيها، الشمس هنا جديدة، تُثبت أن الجديد فى الطبيعة هو الجديد فى كيفية شعور النفس به، والقمر زاهٍ، كأنه اغتسل وخرج من البحر، أو كأنه ليس قمرًا، بل هو فجرٌ طلع فى أوائل الليل، فحصرته السماء فى مكانه ليستمر الليل، فجرٌ لا يوقظ العيون من أحلامها، ولكنه يوقظ الأرواح لأحلامها، ويلقى من سحره على النجوم فلا تظهر حوله إلا مستبهِمة كأنها أحلام معلقة، وللقمر هنا طريقةٌ فى إبهاج النفس الشاعرة، كطريقة الوجه المعشوق حين تقبِّله أول مرة، وللربيع المائى طيوره المغردة وفراشه المتنقل: أما الطيور فنساء يتضاحكن، وأما الفراش فأطفال يتواثبون، نساءٌ إذا انغمسن فى البحر، خُيِّل إلىَّ أن الأمواج تتشاحن وتتخاصم على بعضهن، رأيت منهن زهراء فاتنة قد جلست على الرمل جِلسة حواء قبل اختراع الثياب، فقال البحر : يا إلهى! 

أيها البحر، قد ملأتْك قوةُ الله لتثبت فراغ الأرض لأهل الأرض، ليس فيك ممالك ولا حدود، وليس عليك سلطان لهذا الإنسان المغرور، وتجيش بالناس وبالسفن العظيمة، كأنك تحمل من هؤلاء وهؤلاء قشًّا ترمى به، والاختراع الإنسانى مهما عَظُمَ لا يغنى الإنسانَ فيك عن إيمانه، وأنت تملأ ثلاثة أرباع الأرض بالعظمة والهَوْل، ردًّا على عظمة الإنسان وهوله فى الربع الباقى؛ ما أعظمَ الإنسانَ وأصغرَه!

ينزل فى الناس ماؤك فيتساوون، ويركبون ظهرك فى السفن فيحِنُّ بعضهم إلى بعض حتى لا يختلف باطن عن باطن، تُشعرهم جميعًا أنهم خرجوا من الكرة الأرضية ومن أحكامها الباطلة، وتُفقرهم إلى الحب والصداقة فقرًا يريهم النجوم نفسها كأنها أصدقاء، إذ عرفوها فى الأرض، يا سحر الخوف، أنت فى اللجة كما أنت أنت فى جهنم، وإذا ركبك الملحد، فرجفتَ من تحته، وهدرتَ عليه وثُرْتَ به، وأريتَهُ رأى العين كأنه بين سماءين ستنطبق إحداهما على الأخرى، فتُقْفَلانِ عليه، تركته يتطأطأ ويتواضع! 

ألا ما أشبه الإنسان فى الحياة بالسفينة فى أمواج هذا البحر! إنِ ارتفعتِ السفينةُ أو انخفضت، فليس ذلك منها وحدها بل مما حولها، ولن تستطيع أن تملك من قانون ما حولها شيئًا، ولكن قانونها الثبات والتوازن ونجاتُها فى قانونها، فلا يَعْتِبَنَّ الإنسان على الدنيا وأحكامها، ولكن فليجتهد أن يحكم نفسَه.
من كتاب «وحى القلم»