بقلم: د. علاء الجرايحي محلب: سيناريو الأوبئة.. المخرج واحد والمشهد مكرر

د . علاء الجرايحي محلب
د . علاء الجرايحي محلب

حصبة، كوليرا، ملاريا، بلهارسيا، كوفيد، وغيرها من الأوبئة الفتاكة على مر القرون والأجيال السابقة.. سلسال طويل من الأمراض والطفيليات والبكتيريا القاتلة تنهش أجسادنا دون أن نشعر، وتسكن مواطن الضعف بمناعتنا المتواضعة، حيث تخترقنا ببطءٍ، وتسرى بأعضائنا فى صمتٍ إلى أن تستوطن وتستعر وتُعلن عن نفسها بوضوحٍ ونحن فى غفلةٍ لنفاجأ بها وهى تقتلنا بلا رحمة.

حين نكون مُعافين بدنيًا وباستطاعتنا السير والحركة دون عائقٍ، أغلبنا يستشعر بأن قدميه تحملانه، ويديه تُساعدانه، وبإمكانه فعل المستحيل وغير الممكن، فتتملكه الثقة بأن بنيانه قوىٌّ وقادرٌ على التغلُّب على كل الأجسام الدخيلة عليه ومقاومتها جيدًا، وأن مناعته حائط صدٍ منيع بمقدورها الفتك بتلك الأوبئة المهاجمة، إلا أنه ورغم ضعف وهشاشة الوباء ذاته فى الكثير من الأنواع المنتشرة منه، فإن تلك الأجسام سرعان ما تتحوَّر وتتوحش وتتمتع بقوة الصبر والتعايش مع الظروف المضادة لها، ثم تنمو وتتكاثر بداخلك وتُبادرك الهجوم بشراسة، ولا يستطيع بنيانك الهش الذى ظننت قوته يومًا التغلُّب عليها وقهرها، لأنها تكون قد أفقدته توازنه تدريجيًا، وشلَّت حركته مع مرور الوقت، وجعلته مجرد ديكور خارجى، وهيكل منتفخ فارغ ليس بإمكانه الدفاع عن نفسه، أذابته جراثيم صغيرة لا تُرى بالعين المجردة.

أما الجانب المخيف فى هذه الأوبئة وتلك الأنواع منها والتى تُسبِّب العديد من الأمراض المستعصية، ليس صعوبتها أو قوتها، ولكن المُرعب والمُفزع هو انتقالها من جسدٍ لجسد، ومن شخصٍ لآخر، وكلما كان الوباء بسيطًا فى بدايته كلما كانت مشكلته أصعب وأكثر تعقيدًا، لأنه وباءٌ ماكر يتخذ الخداع سبيلًا حتى يستوطن جسد الإنسان وجهازه المناعى، ثم يقوم بتدميره وتفتيت أذرعه واحدًا تلو الآخر ويُعيقها جميعًا عن أداء وظيفتها التى خُلقت لها، وعلى سبيل المثال ظهرت بكتيريا الكوليرا عام ١٩٦١، وانتشرت منها سبع موجات حتى وقتنا الحالى، والكوليرا بمفهومها الطبى وباءٌ يستوطن الجسم فى خمس ساعات، ليُلحق به إسهالًا شديدًا وجفافًا من الدرجة القسوى، وقد يُسبِّب الوفاة على الرغم من أن علاجه بسيطٌ جدًا،  لكنه ومع التطور الهائل فى ابتكار الدواء والعقاقير المضادة له، ما زال موجودًا حتى الآن ويقتل دون سابق إنذار.

أيضًا تُوجد حتى اللحظة التى نكتب فيها سطورنا هذه البلهارسيا التى تنتقل من خلال الماء الملوث، ويُوجد منها أنواع متعددة والتى قُدِّرت إصاباتها فى عام ٢٠٢١ ما يقرب من ٢٥٤ مليون مُصاب بديدان البلهارسيا يحتاجون للعلاج، كما أن وباء الملاريا وصلت إصاباته التقديرية ما يربو على نصف سكان العالم، وينتقل للشخص المصاب بالمرض عن طريق لدغات البعوض، وقد قُدِّرت إصاباته فى العام نفسه نحو ٢٤٧ مليون إنسان، وهناك الكثير من الأوبئة التى تظهر باستمرار ولم يتم رصدها لقدرتها على التخفى والانتشار، ثم عُنصر المفاجأة والتحرك وقتها يكون متأخرًا.

فى كل حقبة زمنية يظهر وباء بسيط يتسلَّل إلينا بهدوء شديد، ثم يتطور تطورًا شديدًا داخل أجسادنا إلى أن يستوطنها ويستعمرها، ويُصبح عبئًا مُضافًا لأوجاعنا وأمراضنا الكثيرة والمتنوعة، وما عاد أحدٌ يتصف بالبنيان القوى، أو الجسم السليم إلا نادًا، فأى وباء يظهر يفتك بالكبير المُحنك الذى يعى دروب الحياة وخبراته تُؤهله لأن يمد الشباب بالحِكمة والأمل والنجاح، وبالصغير الذى ننظر إليه على أنه مفتول العضلات الذى لم يطاله الزمن وبإمكانه أن يتحمل ويُقاوم بأعصابٍ من حديد.
 
لقد أنهكت معظم الأوبئة المجتمعات وتركت آثار الضعف والهشاشة فى شبابها، وحتى مع ظهور عقار مضاد لهذا أو ذاك الوباء الطفيلى الذى فى الغالب الأعم مُصنَّع ومُخلَّق من قِبل منظمات تهدف إلى الربح ولا يهمها الإنسان ولا صحته أو حتى المجتمعات التى تعيش فيها، وإنما كل ما يعنيهم هو الأرباح الخيالية التى تُؤمِّن حياتهم ورفاهيتهم، وكأنهم سيعيشون حياة أبدية، رافضين فكرة الموت وسهامه التى تصيب فى أية لحظة، حتى مع ظهورها يظل الإنسان مصدر تجارة وربح لصانعى الأوبئة والأمراض، والهدف الذى لا غنى عنه لمصادر الدخل لديهم، وأخص بالذكر هنا فيروس كورونا الضعيف جدًا الذى أصاب العالم بحالة من الخوف والقلق، وزعزع مؤسسات وكيانات بأكملها ليُعطل حركة الإنتاج والنمو للعالم بأكمله وجعله فى حالةٍ يُرثى لها صحيًا واقتصاديًا وسياسيًا.

عندما نجد المؤسسات، دولية ومحلية، تُناهض هذا العدو المُصنَّع خصيصًا لهذه الأغراض الوضيعة، وتُنفق المليارات لكى تُحافظ على استقرارها البشرى وبنيانها الصحى لديها، فإذا بطفيلى آخر يبرز على السطح بيد النفعيين، يُحاول تعطيل عجلة التقدم والنمو وضرب الأمن الاجتماعى المصاب أغلبه باللا وعى، وإقناع العامة به وبأن الحياة أصبحت رمادية صعبة، والقرارات التى يجب أن تُتخذ فى حينه غير مدروسة ما أثَّر على اقتصادات العالم وجعله يمر بأزمات مُتلاحقة، وكأن هذا الطفيلى يعيش فى عالم آخر غير العالم الذى نعيش فيه دون تحمُّلٍ لأى مسئوليات، لإلباسنا قناع المزاعم المزيفة دون معرفة بأبسط تفاصيل اللعبة، والعجب العجاب أننا نرى تلك الطفيليات فى تركيبتها مفضوحة وفاشلة الإخراج والتصوير والمونتاج، فلا سلام ولا استقرار إلا بمكافحة عامة لأمراض هؤلاء العقلية التى أصابتهم بهوس الربح، ولأفكارهم الانهزامية التى تتغلغل داخل الدول والمجتمعات وتُحبط سواعد الإنتاج وتُحدث الأرق لنفسية الشعوب فى كل الأوقات، فيجب علينا دائمًا مُجابهة أيادٍ خفية سمتها الجشع والطمع وتعطيل مسير البشرية على مواصلة الحياة.