خارج النص

القدس .. يوميات مدينة أسيرة

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

فارق كبير بين أن تقرأ عن شيء، وبين أن تقترب منه وتراه بعيون إنسانية وحكايات أبطال يعيشون الحدث كل يوم، وتتحول حياتهم اليومية إلى فصل من التاريخ دون أن يدروا.

أتحدث هنا عن القدس .. المدينة والرمز.. القصة الممتدة بعمر التاريخ والضاربة بجذورها فى أعماق البشرية.. مدينة الديانات الثلاث وموطن الأنبياء.. مسرى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبداية معراجه إلى السماء.

الملايين من العرب - مسلمين ومسيحيين - وأنا منهم تبدو علاقتنا بالقدس عاطفية فقط، نسمع الكثير وقد نقرأ القليل عن تاريخ المدينة وحاضرها، نعرف أنها مدينة محتلة منذ عام 1967، وتمارس فيها سلطات الاحتلال الإسرائيلى كل صنوف التهويد وطمس الهوية واضطهاد سكانها العرب، لكننا لا نشعر بعمق المأساة، وحقيقة ما يجرى على الأرض، لأنها تحولت إلى مجرد خبر - إن وجد -  فى نشرات الأخبار.

قبل أسبوعين، أتيحت لى فرصة نادرة للاقتراب من قضية القدس، عبر المشاركة كمتحدث فى ندوة دولية عن دور الإعلام فى دعم الهوية الحضارية للمدينة، بصحبة كوكبة من الإعلاميين والخبراء، وبدعوة كريمة من وكالة بيت مال القدس الشريف ووزارة الإعلام المغربية، على هامش اجتماع وزراء الإعلام العرب الذى استضافته مدينة الرباط.

اللقاء كان بالفعل فرصة لا تعوض للاقتراب من أبناء القدس الذين جاءوا ليرووا جانبا من صمود المدينة الأسيرة، لكن حكاياتهم، التى لم تخل من ألم الاضطهاد والظلم، كانت مفعمة بقوة الحياة، فإرادتهم فى البقاء فى مدينتهم المقدسة أقوى من كل محاولات الاحتلال.

بعيدا عن الشعارات، استمعنا إلى قصص أبناء القدس المرابطين بالمدينة، يحافظون على أبنيتها التاريخية منذ آلاف السنين، يروون كيف تسعى سلطات الاحتلال إلى جعل حياتهم مستحيلة، تمنعهم من التنقل، تلاحق المشاريع التجارية العربية، حتى يضطر أصحابها إلى الهروب خارج المدينة وبيع أملاكهم، والمشترون دائما جاهزون!!

استمعنا إلى تفاصيل تبدو بالنسبة لنا أبسط من أن نعتبرها قضية تستحق أن تروى، لكنها بالنسبة لهم باتت عملا نضاليا، وفعل مقاومة يستحق دعما دوليا، فتوفير رغيف الخبز عبر المخابز الفلسطينية بات قصة كفاح، فى ظل عمليات التضييق والإغلاق التى تستهدف هذه المشروعات البسيطة، فى محاولة لخنق كل أوجه الحياة العربية بالمدينة.

دارت حول أكواب الشاى المغربى حكايات عن الاستيلاء على بيوت العائلات الفلسطينية والأوقاف الإسلامية والمسيحية فى القدس عبر دائرة جهنمية صاغتها سلطات الاحتلال لبسط سطوتها على كل ما ومن بالمدينة، وسط تواطؤ وصمت دولى مخزٍ، واستسلام وإحباط من جانب بعض أصحاب تلك الأملاك.

أنصتنا للدكتور محمد سالم الشرقاوي، مدير وكالة بيت مال القدس الشريف، وهو يروى لنا قصة شراء أحد المنازل التاريخية، المبنية منذ العهد المملوكي، ويقع على بعد أمتار معدودة من المسجد الأقصى، على طريق الآلام فى قلب المدينة القديمة، ليكون مركزا ثقافيا لخدمة أبناء المدينة، وكيف أوقف شراء ذلك المبنى عملية تخريبية لشق نفق يصل إلى أسفل المسجد الأقصى الشريف.

تساءلنا لماذا لا تُقدِم كل الدول والمؤسسات العربية ذات القدرة المالية والسياسية على شراء العديد من أبنية المدينة القديمة لتعزيز الحضور العربى بها، بدلا من أن نتركها أسيرة يفعل بها الاحتلال ما يشاء، لكن عيوننا اصطدمت بصورة تلك اللوحة الزرقاء التى تواجه ناصية المبنى المملوكي، ومكتوب عليها طريق الآلام، فأسكتتنا الدلالة!

القدس لن تحيا بالشعارات، ولن تكون لنا بالهتافات، بل تحتاج إلى عمل جاد على الأرض دبلوماسيا واقتصاديا وإعلاميا، لنحافظ على ما تبقى من المدينة عربيا، إلى أن تعود محررة يوما ما.