«مملكة السباع» قصة قصيرة للكاتب أحمد عبد العزيز صالح

أحمد عبد العزيز صالح
أحمد عبد العزيز صالح

خرج الطبيب متجهم الوجه وجسده يرتعد من الخوف، لا يعرف كيف يخبر الملك أن زوجته ماتت ولم يستطع انقاذها، ليلة عصيبة مرت على كل سكان القصر بعد انتشار خبر موت الملكة وهى تلد.

الملك العظيم ملك البلاد ومملكة السباع أمر بقطع رأس الطبيب وكل مساعديه، الغضب العارم متقدم على حزنه بعد فقد حبيبة قلبه وملكة البلاد وهي تضع مولودها الأول.

رائحة الموت جاثمة على صدور الجميع وأغلب الخدم يرتعدون ويخشون وقوع بصر الملك عليهم، كلما رأى أحدهم صاح بغضب وأمر بقطع رأسه، حتى تلك النظرة الخاطفة لوجه الطفل المولود لم تمحي غضبه أو تنسيه لوعته وحزنه على موت الملكة، يلازمها ويعشقها منذ الطفولة وقبل جلوسه على عرش المملكة بأيام صارت زوجته ووضع تاجي المملكة فوق رؤوسهم في نفس الاحتفال .

ملك خُدّام الجن يطير بجناحيه ببهو بلاط الملك ويخشى الإفصاح عن وجوده وإظهار جسده، نظرة واحدة لجلسة الملك بظهر مشدود وأعين محدقة في الفراغ ويده مضمومة بقسوة وبجواره السبع الأكبر يجلس، يقف على أربع بتحفز ويزأر من حين لأخر، جعلته يستمر في التحليق فوق العرش بحذر وصمت.

كل سكان القصر تحولوا لتماثيل من حجر الصوان، يخشون مجرد التنفس ولفت نظر الملك وإثارة غضبه، بكاء المولود يشق السكون والملك برغم قوته يقاوم رغبة عارمة في البكاء، موت الملكة أمر بالغ الصعوبة، والقسوة وأشد من فقدان الملك والمملكة على قلبه، لم يستطع أحد الاقتراب من العرش المشتعل بالحزن والغضب غير الوصيفة العجوز.

وحدها فعلتها واقتربت منه بأعين باكية تخبره أن الصغير يبكي يريد الطعام، كل حريم القصر أصابهم الفزع وتجمد اللبن في صدورهن.

السبع بجواره يزأر بشكل عصبي متكرر والملك يقبض على عنقه بيده العريضة يمنعه عن الحركة، ملك الجن يتوقف عن التحليق ويهبط أمام الملك راكعًا بإجلال، الموقف عسير ومؤلم والكل يتحاشى ثورة الملك الحزين، وبرغم ذلك وقف بجواره وهمس له بثلاث جمل، بعد أن سمعهم الملك نظر لوجه السبع بتحديق ثم صاح بعدها بوجه الوصيفة العجوز يأمرها بحلب ضرع اللبؤة وجعل الصغير يتناوله.

سبقت الملكة بأيام ووضعت شبلا صغيرا أسماه الملك "زد"،

ملك الجن أوصى بأن يرضع الصغير من ضرع اللبؤة وألا يخشى الملك من ضرر ذلك أو وقوع أذى بولي عهد المملكة.

انتقلت اللبؤة وشبلها الصغير لحجرة الصغير وأصبح لبن ضرعها هو مبتغاه طوال الوقت، لا يتوقف عن البكاء إلا بعد أن يشارك الشبل فيه ويشبع.

"آد- هول" يحمل ملامح الملكة كلها، فقط له نظرة حادة قوية تشبه تلك النظرة التي تُزين وجه الملك العظيم وتميزه،

"آد" و"زد" أصبحا متلازمين طوال الوقت وملك الجن لا يتوقف عن إسداء النصائح والمشورة للملك، المملكة التي بها البشر والجن والسباع، تحتاج لملك ذو بأس وقوة حتى يرث العرش وهو كفء له.

لم يستطع الملك العظيم وضع أخرى بجواره فوق العرش وترتدي تاج الملكة الراحلة، سنوات ولم يستطع فعلها ولم يبتسم من وقتها مرة واحدة لأي سبب، تحول غضبه وحزنه لبركان ثائر داخل صدره جعله يقود جنوده من البشر والجن والسباع ويطوف حول المملكة في دوائر تتسع باستمرار ويزيد مساحة المملكة ويضاعف قوتها ونفوذها، لا يوجد من يستطيع الصمود أمام جنوده الأشداء وجنود الجن وأنياب السباع.

"زد" لم يظل بداخل القصر مثل والده رفيق الملك وملازمه، أصبح أول المتقدمين من السباع في كل المعارك والغزوات،

"آد" ورث شجاعة الملك العظيم وقوة السباع بشكل أدهش الملك العظيم ذاته.

فبعد أن وصل عامه الخامس عشر كان يحظى بثقة الملك ليوافق أن يجعله قائدًا على رأس إحدى الغزوات.

"آد" وبجواره "زد"، نصف الجيش وأكثر من نصف قوته،

يهجمون كأنهم إعصار جبار يقتلع كل شئ أمامه في طرفة عين.

سيف بيد مرتعد يرى الموت، يصيب صدر "آد" ويترك جرحاً غائراً عميق، إبنة الكاهن تجلس بأمر الملك بجواره تمرضه وتتابع عناية الجرح، لم تدخل حجرته من قبل غير الوصيفة العجوز واللبؤة التى ظنها أمه لفترة قبل أن يجلس بصحبة ملك الجن ويفهمه كل شئ وهو يعلمه القراءة والكتابة والخطط العسكرية وعلوم الفلك والفيزياء.

"تيا" إبنة الكاهن، فتاة رقيقة لها ملامح لا تشبه ملامح الوصيفة العجوز ولا تحمل نفس رائحتها المقبضة للقلب، لها ثغر دائم الابتسام وصوت يشبه الغناء ورائحة أطيب من رائحة حديقة القصر، كلما لمست أناملها صدره، نسى ألم الجرح وشعر بقرب الشفاء.

ما ورثه من ملامح الملكة الراحلة، ترك بوجهه جمالا اختلط بأعينه القوية وجعل العشق ينفذ لقلب "تيا" وأصبحت تخشى سرعة الشفاء وانتهاء مهمتها.

ابتسم الطبيب بسعادة وهو يُعلن شفاء وريث العرش والتئام الجرح، فقط وقفت "تيا" في نهاية الحجرة تنظر لأعين "آد" وهي تبكي وهو يفهم سبب بكاءها و يرمقها بنظرة جعلتها تتوقف عن الحزن والبكاء، بمجرد خروجه ركع على ركبته أمام الملك العظيم وبعد أن قبْل يده طلب منه بخجل الزواج، الزواج من "تيا" أصبح أمر لا يقبل النقاش بداخل عقله، لا يعيبها شئ ولا توجد عروسة ملكية لها الأولوية.

ملك الجن ابتسم للملك وأومأ برأسه ليضع الملك يده بعدها على رأس "آد" ويعلن خبر الزواج.

المملكة تضج بالحركة والاستعداد لعرس وريث عرش المملكة، حفل مبهر لم تشهده المملكة من قبل وملك الجن قدم لشعب المملكة عروضًا لم يرون مثلها من قبل، الكل رقص وغنى وامتلأت المملكة بمظاهر البهجة والفرح.

السعادة القصوى قد يصنعها الانتصار في معركة عظيمة، أو قضاء ليلة و"تيا" تنام فوق ذراعه وهو يتأمل جمال وجهها المضئ.

ملك مملكة الجنوب يتحرك مقدمًا جيشه العملاق نحو المملكة، الملك يثور وينطلق يقود جيشه العملاق من البشر والجن والسباع لملاقاته وسحقه هو وجنوده.

الخيانة تصنع المؤامرات، بعد خروج الملك العظيم بكل جيشه للجنوب، ملك الجن يحلق ويأتي بخبر الخيانة والمؤامرة، ملك مملكة الشمال يتقدم نحو المملكة، لا يوجد غير "آد" الذي لم يمر على زواجه إلا بضع أيام و"زد" مرافقه وملازمة باستمرار وبعض الحرس والجنود.

"آد" يرتدي رداء المقاتل ويهب وهو يجمع كل الرجال والجنود لحماية المملكة، جنوده من الجن أول من اشتبكوا مع جنود الجن لمملكة الشمال، المعركة خلف النهر والجنود يتساقطون بجوار "آد" و"زد"، الملك العظيم بنصف جنوده يعود مهرولًا لإنقاذ المملكة من المؤامرة.

مات كل الجنود ولم يتبقى غير "آد" و"زد"، ولم يعد "آد" يشعر بألم الجروح من كثرتها، فقط يصيح ويهتف وهو يضرب بسيفه في كل اتجاه، ومئات الجثث من حوله حتى انهالت عليهم الرماح الغادرة الجبانة، نفذ أحدهم من ظهره بعد أن اخترق بطنه، و"زد" أصابه ثلاثة منها، سقطا متجاورين ينزفون من كل جزء من أجسادهم وأعين متلاقية في نظرة وداع.

الكثرة تغلب شجاعة الأقوياء والسباع، ماتا متلاصقين ودمهم مختلط يروي الأرض من تحت أجسادهم ويسير في خطوط متعرجة حتى النهر، فور وصول الملك العظيم وجيشه شبت معركة هائلة لم تتوقف فيها السيوف عن سفك الدماء، حتى تأكد الملك العظيم من مقتل كل جنود مملكة الشمال وعلى رأسهم الملك صانع الغدر والمؤامرة، المعركة الأولى التي لم يعقبها احتفال.

مات "آد" وريث العرش بجوار رفيقه ومن منحه الحياة  ومنحه لبن أمه أيضا ، لم تتوقف "تيا" عن النحيب والصراخ وطلبت من الملك أن يأمر بتخليد ذكرى الملك الشجاع، تمثال ضخم  له ولرفيقه، تمثال عملاق لـ آد بوجهه وملامحه وجسد "زد"، جسد سبع ورأس إنسان.