فنون العيد.. وصناعة الفَـرْحَـة

د.إلهام سيف الدولة حمدان
د.إلهام سيف الدولة حمدان

نعلم‭ ‬جميعًا‭ ‬أن‭ ‬قدماء‭ ‬المصريين‭ ‬كانوا‭ ‬يُعدون‭ ‬المناسبات‭ ‬الدينية‭ ‬والزراعية‮ ‬‭ ‬بمثابة‭ ‬الأعياد؛‭ ‬فيقولون‭ : ‬“عيد‭ ‬الحصاد”‭ ‬و”عيد‭ ‬حرث‭ ‬الأرض”‭ ‬و‭ ‬“عيد‭ ‬وفاء‭ ‬النيل”‭ ‬و‭ ‬“عيد‭ ‬النيروز‭/‬شم‭ ‬النسيم”؛‭ ‬وهذا‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬إجادة‭ ‬المصري‭ ‬القديم‭ ‬صناعة‭ ‬الفرح‭ ‬والبهجة‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬قسط‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬باحتفاله‭ ‬بكل‭ ‬مناسبة،‭ ‬ولعل‭ ‬الجيل‭ ‬القديم‭ ‬وجيل‭ ‬الوسط‮ ‬‭ ‬يتذكر‭ ‬أنه‭ ‬إلى‭ ‬عهدٍ‭ ‬قريب‭ ‬كانوا‭ ‬يحتفلون‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬“عيد‭ ‬الجلوس”‭ ‬؛‭ ‬وهو‭ ‬ذكرى‭ ‬يوم‭ ‬جلوس‭ ‬الملك‭ ‬على‭ ‬العرش‭ . ‬

مابالنا‭ ‬بالاحتفالات‭ ‬الدينية‭ ‬عند‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬“عيد‭ ‬الفطر”‭ ‬و‭ ‬“عيد‭ ‬الأضحى”‮ ‬‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬مظاهر‭ ‬تلك‭ ‬الاحتفاليات‭ ‬؟

‎‮ ‬‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭  ‬عن‭ ‬المظاهر‭ ‬الاحتفالية‭ ‬الروتينية؛‭ ‬كالحرص‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬وتناول‭ ‬“الكعك”‮ ‬‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬الفطر؛‭ ‬وتناول‭ ‬وجبات‮ ‬‭ ‬من‭ ‬“‭ ‬اللحوم‭ ‬“‭ ‬في‭ ‬عيد‭ ‬الأضحى؛‭ ‬وكل‭ ‬هذه‭ ‬الأطعمة‭ ‬المتنوعة‭ ‬تندرج‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬“ساعة‭ ‬لبطنك”؛‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬البهجة‭ ‬والفرح‮ ‬‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬الراحة‭ ‬والاستجمام‭ ‬حين‭ ‬نتطلع‭ ‬إلى‭ ‬قضاء‭ ‬مانطلق‭ ‬عليه‮ ‬‭ ‬“‭ ‬ساعة‭ ‬لعقلك‭ ‬“‭ ‬؟‭ ‬

إن‭ ‬من‭ ‬عادة‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأعياد؛‭ ‬القيام‭ ‬ببعض‭ ‬الطقوس‭ ‬لإزجاء‭ ‬وقت‭ ‬إجازة‭ ‬الأعياد؛‭ ‬وذلك‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬شكل‭ ‬وطريقة‭ ‬مايطلقون‭ ‬عليه‭ ‬“خروجة‭ ‬العيد”‭ ‬التي‭ ‬تنتظرها‭ ‬الأسر‭ ‬كمكافأة‭ ‬على‭ ‬جهد‭ ‬العام‭ ‬ــ‭ ‬وبخاصة‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬وبخاصة‭ ‬الخارجين‭ ‬من‭ ‬أتون‭ ‬الامتحانات،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬سيكملونها‭ ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬الراحة‭ ‬ــ‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬التطلع‮ ‬‭ ‬للنزهة‭ ‬في‭ ‬أحضان‮ ‬‭ ‬شواطيء‭ ‬البحر؛‭ ‬ولكن‭ ‬الأغلب‭ ‬الأعم‭ ‬تهفو‭ ‬أرواحهم‭ ‬إلى‭ ‬التمتع‭ ‬بالراحة‭ ‬ــ‭ ‬دون‭ ‬تكبد‭ ‬أعباء‭ ‬السفرــ‭ ‬في‭ ‬قاعات‭ ‬العرض‭ ‬السينمائي‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬مساكنهم‭ . ‬

ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬سيشاهد‭ ‬المتفرج‭ ‬في‭ ‬سعيه‭ ‬إلى‭ ‬الراحة‭ ‬والبهجة‭ ‬والمتعة‭ ‬في‭ ‬سويعات‭ ‬الإجازة‭ ‬؟‮ ‬‭ ‬

المتعارف‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬الإنتاج‭ ‬السينمائي‭ ‬المصري‭ ‬ــ‭ ‬وبخاصة‮ ‬‭ ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬ــ‭ ‬يخضع‭ ‬لمفاهيم‭ ‬عقلية‭ ‬“المنتج”‭ ‬الباحث‭ ‬عن‭ ‬“الربح”‭ ‬قبل‭ ‬“المضمون‭ ‬الراقي”‭ ‬الذي‭ ‬يخدم‭ ‬استراتيجية‭ ‬وتوجهات‭ ‬الدولة‭ ‬وأهدافها‭ ‬الوطنية؛‭ ‬فيتم‭ ‬عرض‭ ‬“‭ ‬الأفلام‭ ‬الكوميدية”‭ ‬خالية‭ ‬الدسم؛‭ ‬وغالبًا‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬من‭ ‬ينادون‭ ‬بكوميديا‭ : ‬الضحك‭ ‬للضحك‭ ! ‬دون‭ ‬التأثير‭ ‬الإيجابي‭ ‬الواجب‭ ‬على‭ ‬تشكيل‭ ‬العقل‭ ‬الجمعي؛‭ ‬وتتبخر‭ ‬أفكار‭ ‬تلك‭ ‬الأفلام‭ ‬لحظة‭ ‬الخروج‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬من‭ ‬قاعة‭ ‬العرض‭ . ‬

ولكن‭ ‬للأمانة‭ ‬ــ‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬تناولت‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬في‭ ‬مقالات‭ ‬سابقة‭ ‬ــ‮ ‬‭ ‬تحاول‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬حلول‭ ‬لذلك‭ ‬الأمر،‭ ‬إذ‭ ‬تم‭ ‬أخيراً‭ ‬افتتاح‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ( ‬سينما‭ ‬الشعب‭ )‬،‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬تدبير‭ ‬ميزانية‭ ‬ضخمة‭ ‬لإنتاج‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفلام‭ ‬المأخوذة‭ ‬عن‭ ‬روايات‭ ‬أدبية‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬النضال‭ ‬والمقاومة‭ ‬المصرية‭ ‬ضد‭ ‬الاحتلال‭ ‬وتخليد‭ ‬حياة‭ ‬الأبطال؛‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬الأفلام‭ ‬الرومانسية‭ ‬التي‭ ‬تخدم‭ ‬اهداف‭ ‬وقيم‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭ ‬الأصيلة؛‭ ‬كما‭ ‬استهدفت‭ ‬الوزارة‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬دور‭ ‬العرض‭ ‬ليكون‭ ‬العدد‭ ‬الإجمالي‭ ‬تسعة‭ ‬مواقع‭ ‬بالمحافظات‭ ‬المصرية‭ ‬ـ‭ ‬بحسب‭ ‬بيان‭ ‬رسمي‭ ‬للوزارة‭ ‬ـ‮ ‬‭ ‬ومع‭ ‬موجة‭ ‬ارتفاع‭ ‬الأسعار‭ ‬ومراعاة‭ ‬دخل‭ ‬الأسرة‭ ‬المصرية؛‮ ‬‭ ‬تم‭ ‬تخفيض‭ ‬سعر‭ ‬التذكرة‮ ‬‭ ‬لتكون‭ ‬بسعر‭ ‬رمزي‭ ‬مقابل‭ ‬مشاهدة‭ ‬أفلام‭ ‬جماهيرية‭ ‬حديثة،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬مازال‭ ‬المشروع‭ ‬متاحًا‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬محدودة‭ ‬للغاية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬المستهدف‭ ‬تشغيل‭ ‬60‭ ‬موقعًا‮ ‬‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬مصر‭ .‬‮ ‬‭ ‬وكلنا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬طبيعة‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬العرض‭ ‬تتناسب‭ ‬وتتلاءم‭ ‬مع‭ ‬موسم‭ ‬العيد‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬نسمات‭ ‬روائحه‭ ‬وروحانياته‭ ‬القادمة‭ ‬بالبشرة‭ ‬والخير‭ ‬لمصرنا‭ ‬المحروسة‭ . ‬ولأن‭ ‬الأسر‭ ‬المصرية‭ ‬مازالت‭ ‬تفضل‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بأجواء‭ ‬قاعات‭ ‬السينما‭ ‬خلال‮ ‬‭ ‬بهجة‭ ‬الأعياد؛‭ ‬وذلك‭ ‬برغم‭ ‬الظروف‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العائلات،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬تقلصت‮ ‬‭ ‬بسببه‭ ‬النزهة‭ ‬العائلية‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة؛‭ ‬ولكن‭ ‬تظل‭ ‬الطقوس‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬الأعياد‭ ‬مستمرة‭ ..‬واسترجاع‭ ‬طقوس‭ ‬عيد‭ ‬الأضحى‭ ‬تحديدا‭ ‬عبر‭ ‬السنوات‭ ‬تلاحظ‭ ‬إقبال‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬تبادل‭ ‬الزيارات‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬بين‭ ‬الأسر‭ ‬والعائلات‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬زماننا‭ ‬هذا‭. ‬الذي‭ ‬يموج‭ ‬بالزحام‭ ‬وضيق‭ ‬الوقت‭ ‬وإنشغال‮ ‬‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬التواجد‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬وتوحدهم‭ ‬مع‭ ‬أجهزة‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تآكل‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬،‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬مظاهر‭ ‬العيد‭ ‬أصبحت‭ ‬باهتة،‭ ‬فالناس‭ ‬وتجمعهم‭ ‬ورنين‭ ‬ضحكاتهم‭ ‬وتنزههم‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬المحروسة‭ ‬هو‭ ‬مايصنع‭ ‬الفرق‭ ‬الملموس‭ ‬والمحسوس‭ ‬لبهجة‭ ‬كل‭ ‬عيد‭ ‬،وامتلاء‭ ‬قاعات‭ ‬السينما‭ ‬والمسرح‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬مظاهر‭ ‬العيد‭ ‬التي‭ ‬تدفع‭ ‬بالأصدقاء‭ ‬إلى‭ ‬المواعدة‭ ‬والتلاقي‭ ‬والالتفاف‭ ‬حول‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬لتكتمل‭ ‬متعة‭ ‬العيد،‭ ‬والاحساس‭ ‬بالإجازة‭ ‬ونفض‭ ‬غبار‭ ‬تعب‭ ‬العمل‭ ‬والدراسة‭ ‬،لذلك‭ ‬أجد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان‭ ‬أن‭ ‬نهتم‭ ‬بنوعية‭ ‬الأعمال‭ ‬الفنية‭ ‬المعروضة‭ ‬في‭ ‬مواسم‭ ‬الأعياد،فالعيد‭ ‬ليس‭ ‬معناه‭ ‬عرض‭ ‬ماهو‭ ‬هزلي‭ ‬وسطحي،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مناسبة‭ ‬أدعى‭ ‬لعرض‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬يحمل‭ ‬قيمة‭ ‬فنية‭ ‬حقيقية‭ ‬،‭ ‬تغذية‭ ‬للأرواح‭ ‬العطشى‭ ‬إلى‭ ‬التزود‭ ‬بالوجدان‭ ‬النقي،وجميل‭ ‬الفكر‭ ‬والرؤى،فلامانع‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬خفيفة‭ ‬الظل‭ ‬لكن‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬الإسفاف،والاستخفاف‭ ‬بالمشاهدين‭. ‬ويظل‭ ‬“‭ ‬سعدنا‭ ‬بيها‭ ‬“‭ ‬بيخليها‭ ‬أجمل‭ ‬فرحة‭ ‬وأجمل‭ ‬عيد‮ ‬‭ ‬مع‭ ‬فنون‭ ‬العيد‭ !‬


 

;