نعم على هذه الأرض الطيبة قبل عشر سنوات قامت ثورة، ثورة حركتها وحمتها جماهير الشعب المصرى، لم تكن الـ 30 من يونيو ثورة كأى ثورة أو تحرك جماهيرى يحكمه الاندفاع أو يطالب فقط بتغيير سياسى، من على هذه الأرض كانت جماهير يونيو فى حركتها وبعقلها الجمعى وإدراكها العميق بتاريخ هذه الأمة الموغلة فى الفعل الحضارى تنطلق وراء أهداف تعلم جيدًا بحسها التاريخى أن تحقيق هذه الأهداف ليس أمرًا عابرًا أو بسيطًا.
لم يكن طريق العشر سنوات سهلا أو هينًا فالحراك الجماهيرى المدرك تمامًا لرد الفعل القادم كان يرى بجلاء أن فعله الثورى يمثل تهديدًا حقيقيًا لقوى الاستعمار التى على مدار تاريخ هذه الأمة ترصدت لها من أجل أن تمنعها من تحقيق أحلامها فى التقدم، فهذه القوى الاستعمارية وخلال قرنين من تاريخ مصر الحديث وهى تشن حملاتها وحروبها الشرسة تجاه كل مشروع وطنى هدفه الرئيسى بناء دولة مصرية حديثة
فى بداية هذه الحملات التى استهدفت المشروع الوطنى المصرى كانت قوى الاستعمار لا تخفى وجهها القبيح وتحرك أساطيلها لضرب هذا المشروع مباشرة منذ اللحظات الأولى لتأسيس الدولة المصرية الحديثة فى نسختها الأولى على يد محمد على باشا بل قررت أن تستخدم سلاح الاحتلال البغيض لتضمن تمامًا أن هذا المشروع لا يمكن أن يرى النور، لكن كانت إرادة الجماهير منذ ثورتى 1919 و1952 رافضة تمامًا أن يفرض عليها من قوى الاستعمار ما لاترضاه أو تسرق هذه القوى البغيضة حقها فى بناء مشروعها الوطنى .
عندما نعود إلى هذا السرد التاريخى العابر دائمًا ما تكون هناك أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، لماذا ترصدت قوى الاستعمار لحركة هذه الأمة ولماذا رأت فى مشروعها الوطنى خطرًا يهدد مصالحها ؟ وهل نحن نضخم من ذواتنا عندما نطرح هذه الأسئلة؟ الحقيقة تقدمها الإجابات فنحن أمة لا تسيطر عليها الشفونية أو لاندرك حجمنا الحقيقى على خريطة التاريخ والعالم، فالأمة المصرية لاتحتاج إلى بيانات أو تقديمات لتعلن عن فعلها الحضارى المساهم فى بناء صرح الإنسانية من آلاف السنين وإلى الآن وهذه حقائق يترصدها العدو ويعلمها الصديق .
بنفس لغة المصالح التى يدركها المستعمر جيدًا تأتى إجابات الأسئلة فالمشروع الوطنى المصرى بالفعل مثل ويمثل تهديدًا حقيقيًا للنهب الاستعمارى الدائم لمقدرات الشعوب المستضعفة لأن المشروع الوطنى المصرى قائم على ثوابت لم تتغير طوال تاريخ هذا الوطن هى العدالة والنزاهة، فلم تكن مصر فى يوم ما دولة غازية أو مستغلة لموارد الأمم الأخرى بل على العكس كانت دائمًا عندما ينطلق مشروعها الوطنى كما حدث فى النسخة الأولى من تأسيس الدولة الحديثة وعقب ثورة يوليو 1952 تتحول الدولة المصرية ومشروعها إلى طاقة جبارة تمد يد التعاون إلى الشعوب الأخرى التى تقاوم القوى الاستعمارية بكافة اشكالها الشريرة وتعمل على تحريرها من هذه الهيمنة الناهبة لمقدراتها .
لا تكتفى الدولة المصرية من خلال مشروعها الوطنى بهذا التعاون أو قيادة حركات التحرر للتخلص من هيمنة الاستعمار بل تبدأ فى تشكيل توازنات قوى جديدة على الساحة الدولية أساسها الأول والأخير مصلحة الأمم والشعوب ويحكم التشكيل الجديد معايير العدالة والنزاهة من أجل أن تسترد هذه الشعوب حقوقها المسروقة طاردة الهيمنة الاستعمارية من مساحات جغرافية شاسعة على خريطة عالمنا ولهذه الإجابات يظل المشروع الوطنى المصرى تحت إدارة الدولة المصرية تهديدًا مستمرًا لمصالح القوى الاستعمارية الشريرة والتى تعمل دائمًا بلا هوادة من أجل تعطيله بطريق مباشر أو غير مباشر
عندمت نعود إلى يونيو وفى بدايات ساعات الميلاد للثورة نجد أن أهداف المواجهة الأولى قد تحققت بقيادة طليعة الأمة من رجال قواتها المسلحة وفى نفس الوقت فجماهير يونيو كما قلنا بإدراكها التاريخى المستمد من الجذر الحضارى لهذه الأمة كانت تعلم جيدًا أنها لاتواجه جماعة فاشية تسللت إلى السلطة فى لحظات عابرة من غياب الوعى ومهد لهذا التسلل دوائر من التآمر الخارجى.
علمت جماهير يونيو أنها تواجه عدوها المستمر قوى الاستعمار ممثلا فى عملائه من الفاشية الإخوانية بعد أن خابت كل محاولات هذه القوى الاستعمارية فى المواجهات المباشرة مع هذا الشعب وهذه الأمة وأصبحت الهزائم المتتالية لقوى الاستعمار فوق الأرض المصرية مؤثرة بشدة على مظهر الهيمنة الزائف الذى تفرض به هذه القوى سطوتها على العالم، أدركت تمامًا جماهير يونيو تبعات المواجهة وأن معارك البدايات سيعقبها حروب لذلك ففى ساعات الميلاد الأولى للثورة بقيادة طليعة الأمة من قواتها المسلحة تمت الإطاحة بالفاشيست المتسللين لينتصر هذا الشعب فى أولى معارك ثورته وتم حذف عام الفاشية الإخوانية والفاشية نفسها من الذاكرة السياسية المصرية وإن بقى شيء فى الذاكرة فهو من باب العظة والعبرة .
بالتأكيد فقدت قوى الاستعمار وعملاؤها من الفاشيست توازنهم أمام صدمة عنفوان الثورة والحراك الجماهيرى الهادر ومن أجل استعادة هذا التوازن لجأت قوى الاستعمار مستخدمة الفاشية وعملائها إلى أكثر الوسائل انحطاطًا وخسة فأطلقت جرزان الفاشية بسلاح الإرهاب الوضيع من أجل محاولة ضرب هذه الثورة وتعطيل أهداف جماهيرها ممثلة فى بناء مشروعها الوطنى، من هنا بدأت واحدة من أشرس المعارك المصرية على مدار تاريخها الحديث فى مواجهة الإرهاب الخسيس وتصدت طليعة الأمة من رجال القوات المسلحة والشرطة للإرهاب الأسود وارتقى الشهداء وسالت الدماء الزكية على أرض هذا الوطن دفاعًا عن حريته وأحلامه وشرفه رافضة فى غضب أن يتحكم فى مقدرات أمة بحجم الأمة المصرية أشباح الخوف من الإرهاب الخسيس .
منذ الساعات الأولى كانت الثورة وجماهيرها تعرف أهدافها وتحققها وتصدت فى نفس الوقت لموجات الإرهاب الأسود على كل الجبهات، ولم تنس هذه الأمة وقيادتها المشروع الوطنى المصرى فى غمار الحرب ضد الإرهاب فبدأت ومازالت مستمرة أضخم عمليات التنمية فى البشر والحجر واستطاعت القيادة المصرية بتوازن دقيق القيام بعملية بناء المشروع الوطنى وبناء الدولة الحديثة والتصدى للموجات للإرهابية حتى نجح الرجال الأبطال فى دحر هذا الخطر الخسيس .
عند هذه النقطة هل يمكن القول أن ثورة يونيو الفريدة فى حدثها أدت ماعليها واستنفذ الزخم الجماهيرى طاقته فى اندفاعاته الأولى بعد عقد كامل ؟ تستطيع النجاحات التى توالت خلال العشر سنوات من بناء جزء كبير من المشروع الوطنى الى دحر الإرهاب تقدم الإجابات وتقول إنه يجب فى تلك الأيام الاحتفال بالانتصارات ونؤخر قليلا تحليل الحدث واستعادة الدرس لوقت آخر، الحقيقة أن حكمة السنوات العشر الماضية وحجم التحديات التى واجهتها هذه الأمة منذ الانطلاقة الأولى لثورة يونيو تشير أن العمل لم ينته بعد وأن ماتحقق هو الأهداف المباشرة للثورة ومازال الزخم الجماهيرى فى حراكه يبحث عن إكمال المشروع الوطنى المصرى بكافة رؤاه ولعل الرؤية الأولى هى إزالة آثار عدوان الفاشيست والقوى الاستعمارية التى تحركهم على هذا المجتمع لما يقرب من مائة عام منذ تسلل هذه الجماعة الفاشية إلى المجتمع المصرى بدايات القرن الماضى نهاية بتسللها إلى السلطة فى لحظة غياب الوعى .
إن لحظة التسلل تلك التى حدثت فى القرن الماضى حتى قيام ثورة يونيو لم تمر بلا أثر على هذا المجتمع بل خلفت وراءها عدوانًا شرسًا على القيم المجتمعية المصرية وكانت ذروة هذا العدوان فى سبعينيات القرن الماضى عندما تغلغل تجار الدين والفاشسيت وأذنابهم من المتسلفة إلى عقل هذا المجتمع ونشروا خرافاتهم وفيروساتهم فى الجسد المجتمعى واهتزت منظومة القيم المصرية الأصيلة وغطى ضباب الجهل الأسود على الهوية المصرية أعرق الهويات فى المجتمع الإنسانى .
عندما تراقب كافة الظواهر المجتمعية الكارثية التى يتعرض لها هذا الوطن تجد بوضوح أن وراءها هذا العدوان الفاشى الذى وقع على مجتمعنا طوال مايقرب من قرن لقد خرجت النظرة الدونية للمرأة والتحرش من كهوفهم العفنة ورؤوسهم المريضة لقد تأسس اقتصاد الخراب و تحريم قيمة العمل المنتج وإعلاء النهب والتواكل وضرب اقتصاد الدولة المصرية مع ظهور شركات توظيف الأموال، والآن يتسلم المستريحون الراية من الآباء المؤسسين لسيرك النصب على المصريين ، ستجد آثار عدوانهم واضحة فى وسائط السوشيال ميديا فقد بثوا سمومهم فى عقول المتلقين فانهارت قيم الاحترام وأصبحت رذائل فاحش القول والحقد والكذب والشماتة حتى فى الأموات هى السائدة على لسان وبوستات هذا العالم الافتراضى ويدعى الفاشيست وأذنابهم المتسلفة أن هذا من الدين والدين منهم براء .
أطلقوا مصائب التكفير وسربوا الفتن الطائفية ليس بين دين وآخر فقط بل بين أبناء الدين الواحد وأرادوا تقسيم الناس شيعًا ، ألبسوا صورة المجتمع تدينًا شكليًا مقيتًا وزائفًا وانطلقوا بتدينهم الشكلى الزائف يوزعون صكوك الغفران ويقبضون الثمن، حولوا الخرافة إلى قاعدة تحكم عقل المجتمع وتحط من قدر العلم والعلماء عدا بالطبع مايسمونهم علمائهم والحقيقة ماهم سوى تجار دين وعملاء لسيدهم المستعمر يطبخون فتاويهم المسمومة فى مطبخ السيد المستعمر والتى غرضها الوحيد هدم كل ما هو وطنى داخل هذه الأمة ،هذه إشارات قليلة مما يفعلونه فى هذا البلد الطيب .
ابحث كما تشاء ستجد أن كل الكوارث الاجتماعية التى تعرض ويتعرض لها هذا الوطن هم وعدوانهم ورائها بوضوح وأن أغلب المشكلات الاجتماعية يمكن حلها عندما يزول هذا العدوان وآثاره على المجتمع لذلك عندما نرى يونيو الآن بعد عشر سنوات يجب ألا نطمئن لانتصارات ما مضى وماحققناه من نجاحات لأن مازال عدوانهم وآثاره تجسم على صدرمجتمعنا .
فى نفس الوقت فجماهير يونيو التى أطاحت بتسللهم السياسى والمخطط الاستعمارى قبل عشر سنوات تستطيع فى ظل قيادتها التى أعطتها ثقتها الكاملة يوم الثورة وإلى الآن، تستطيع هذه الجماهير بوعيها ومخزونها من الحراك الثورى أن تجرى أعظم تحولا اجتماعيا يزيل نهائيًا هذا العدوان وآثاره من كافة أرجاء هذا الوطن الخالد.