يوميات الأخبار

د. مجدي أبوالخير يكتب: نفحات بين الرّوضة وعرفات

د. مجدي أبوالخير
د. مجدي أبوالخير

ثم أراني أعود من رحلتي عبر تلك القرون إلى جبال مكة أتلمّس فيها عَيْنَيْه فربما وقعتا عليها فأَبصَرَها، وكأنها مرايا علّني أراهما من خلالها

قال صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم: «إن لله فى أيام الدهر نفحاتٍ فتعرضوا لها، فلعلّ أحدَكم تُصيبه نفحةٌ فلا يشقى بعدها أبدًا»؛ ونحن ما نزال فى أيام النفحات، ولعلّ أجلّها تلك التى تفوح هناك عند روضةِ النبى محمد ، وعرفات الله، وتلك التى نشتمُّها عند جبالِ مكة.

◄ حجارةٌ تنبضُ حياةً !!!
جبالٌ هناك أراها كلما نزلتُ مكةَ زائرًا بيتَها الحرام -حاجًّا ومعتمرًا- فأرانى أتأملها، بل وأتحدث إليها، وأرانى لا شعوريًّا فى كل مرة أحدث نفسى قائلًا: ربما وقعتْ عينا النبى صلى الله عليه وسلم الشريفتانِ على هذه الجبال، وربما مرّ صلى الله عليه وسلم من هذه الطرق، وإنْ كانت على حالٍ غيرِ حالها اليوم وربما وربما، لكنى أُمَنّى عَينيَّ بأن تقعا على ما وقعت عليه عيناه الشريفتانِ، وأُمَنّى نفسى بأننى أسير فى طريق وطئتْه قدماه الشريفتان، ثم أتخيل مرورَه الشريف بينها، وكأن الزمان قد عاد بى إلى وقتها حتى أراه صلى الله عليه وسلم هناك أشاهدُه وأشاهدُ موكبه المهيب يوم حجّه، وصحابته رضوان الله عليهم يَتْبعونه، ويحوطونه بقلوبهم وعيونهم وأرواحهم.

ثم أرانى أعود من رحلتى عبر تلك القرون إلى جبال مكة أتلمّس فيها عَيْنَيْه فربما وقعتا عليها فأَبصَرَها، وكأنها مرايا علّنى أراهما من خلالها حتى إننى لَأذهبُ أبعد من ذلك فأرانى أُحدّقُ فيها بشغفٍ وتقدير لا لشيءٍ وإنما لرؤيتها ربما له صلى الله عليه وسلم. صِرت أُحدّق فيها فى حبٍّ وإجلال إذ خصّها الله وبحجارتها تلك دون غيرها لأن تكون فى طريقه تراه وتُبصره، وتحتضنه ولم تكُ تعرف ذلك قبلُ، وكأنها تصطفّ فى شموخٍ ومهابةٍ يُسْلِمُه جبلٌ لآخر تشريفًا وتكريمًا له صلى الله عليه وسلم، تكلؤه وترعاه وكأنها أمهاتٌ رءومٌ، وكأن حجارتها أضحت عيونًا ساهرةً عليه حارسة له، وأيادى حانية تحوطُه وتلفّه، يُسْلمُه حجرٌ لآخر حمايةً له وصوْنًا صلى الله عليه وسلم، فوددتُ تقبيلَها لذلك.

شعورٌ يغالبنى ولا أقوى على دفعه كلما أبصرتْ عينى جبال مكة لا سيما القريبة من الحرم، وتلك التى فى المشاعر فى عرفات والمزدلفة ومنى والجمرات، وكيف أدفعه وكِلانا يستغرق الآخر، تأسرنا متعةُ اللقاء فلا نستطيع خلاصًا وفكاكا؟! شعور تصغُر دونه الدنيا بأسرها فلا يُقاربه ولا يفوقه سوى رؤية وجهه تعالى، ووجه نبيّه الكريم، شعورٌ أُسْلِمُه نفسى عَلّنى أن أنالَ به الشفاعة.

◄ لهذا جاء !!!
آسف، معلش، حقك عليّ، شكرًا، جزاك الله خيرًا، شفاهٌ باسمة، ثنايا ضاحكة، عيون لامعةٌ حانيةٌ تحتويك وتغمرك عطفًا وحنانًا، تملؤك دِفئًا وطُمأنينةً، أصابع رقيقة تُرْبتُ على كَتِفيْك تُشعرُك بالأمان، إيماءاتٌ معبرةٌ مترجمة لأجمل المشاعر الإنسانية والأخوة الصادقة إذا ما عجزت اللغةُ عن ذلك، التسامح الإيثار التواضع التنازل دائمًا والحرص عليه، المساعدة وتقديم يد العون للإنسان على اختلاف لونه ولسانه وعُمره؛ طفلٌ صغيرٌ لا ترتفع قامتُه عن الأرض سوى بضعة أشبارٍ يأتى بماءٍ باردٍ لرجل مُسنّ، وآخرُ مُسِنٌّ يَهِمُّ لمساعدة طفلٍ آخر يُقاربُه عُمْرًا وطولاً، كلاهما أقدم على ذلك طواعيةً رُغم اختلافهما لغةً وزِيّا وملامح.

كلّ هذا تراه وأكثر فى مسجده صلى الله عليه وسلم، وفى الحرم المكّى حيثُ الجَلالُ والمهابة، عندئذٍ يتلاشى الزمانُ أمامك، ويتقاربُ المكانُ، وتُزال الحواجز؛ فترى سنينَ هى بالمئاتِ، وتاريخًا عريضًا، وأحداثًا كثيرةً أخذت تتراءى أمام ناظِريْك فتُغمض عيْنيْك وتسبح معها، وتحاول جاهدًا أن تُعايشها وتلامسها ولو ثوانٍ؛ فتجد النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته والرسل ورسالتهم فتصحبهم وتجالسهم وتأخذ عنهم و... ثوانٍ كفيلةٌ بأن تضفى عليك ما يُشعرُك وكأنك قد خُلقتَ من جديد، ومشاعر سامية وأخلاقًا نبيلة تسعُ إنسانَ الأرضِ مطلقًا؛ عندئذٍ تجدُ نفسَك لا شعوريًّا تبتسم وتحنو وتسامح وتصافح وتُسلّم وتتواضع وتُؤثِر غيرَك، وكلّ ما هو جميل تُقدِمُ عليه فى هدوء وسكينةٍ ونَفْسٍ ساميةٍ راضيةٍ وعن طِيب خاطر، ولا عجبَ فأنت كنتَ لثوانٍ فى حضرته صلى الله عليه وسلم، فتخلّقتَ بأخلاقه، فأحسستَ وكأنك قادرٌ على أن تحتوى الناس جميعًا، فلم تعُد ترى أية فوارق. هذا فقط لثوانٍ، فما بالنا لو كانت لساعاتٍ أو حتى لآخر العُمر؟! فلنتخلّق بأخلاقه فلهذا جاء.

◄ الحج !!!
فإذا تركنا وعيونُنا دَمْعَى حضرةَ الجناب النبوى ويَمّمنا وجوهنا صوبَ بيت الله الحرام وعرفات الله فإذا بنا فى رحلةٌ استثنائيةٌ إلى الآخرةِ وأنت فى الدنيا؛ جسدُك فى الدنيا وقلبك وعقلك فى الآخرة، وروحك هائمةٌ فى ملكوت ربّها معلّقةٌ به حبًّا وعشقًا، طامعةٌ فى عفوه وغفرانه وبلوغ جنته. ومن نفحات ربنا فى عرفات أذكر أننى وفى حجتى 2019م كان الجو وحتى الثالثة عصرًا صحوًا، حارًّا وفقًا لطبيعة المنطقة، فلا يُنبئ عن أية تقلباتٍ مناخية ألبتة فإذا بسيولٍ من الأمطار عمّت المكان بأسره، ورياح شديدة كادت أن تقتلع خيام الحجاج عن بكرة أبيها، وإن أتت بالفعل على بعضها، وإذا بنا جميعًا فى حالةٍ روحيةٍ استثنائيةٍ لم نعُد بعدها نأبه لما يجرى حولنا وخطورته مع أنه ما يزال قائمًا فعلًا، وكأننا نُسِّيناه، وقد رفعنا أكفنا بالدعاء إلى الله لعلّها ساعة إجابة، وراح كلٌّ منّا فى حديثٍ مع الله، وساد المكان كله جلالٌ مهيبٌ وطمأنينة وسكينةٌ ووقار لم تشهده عيناى قبلُ، وكأن رحمة الله الآن تُظِلّنا وعيْنَه سبحانه الآن تنظر إلينا، وكأن ملائكته جِوارنا تزاحمُنا لا تُؤمِّن على دعائنا فحسب، بل هى الأخرى فى دعاءٍ، وكأن الطير والشجر وهوام الأرض وحتى حجارة عرفات قد باتت فى سكينةٍ وخشوعٍ، وكأن الأرض والسماء الآن خاشعتانِ أمام الجليل سبحانه، وقد تجلّى علينا جميعًا، هكذا شعرتُ شعورًا ماديًّا اقشعرّ منه سائرُ بدني، ونحن على حالنا تلك لم نعُد ندرك من أمر دنيانا شيئًا، وبِتنا فى حالٍ لا ندرك كُنهها، وظللنا هكذا حتى شرعتْ شمسُ عرفات نحو الغروب، ورُحنا بعدها فى حالةٍ من طمأنينةِ القلب وسكينةِ النفس وراحة البدن تعجز معها معاجمُ اللغة وألسنةُ البيان عن وصفها.

الحج مدرسةٌ لمَن أراد رُقيّا وتعلّمًا؛ بَسْمةٌ حانيةٌ تمنحها كلَّ خلق الله دون انتباهةٍ منك أو حتى إعمال عقلك: من أيّ أرضٍ أتوا ؟! أو بأى لسانٍ يتكلمون؟! دون تفحّصٍ لملامح وجوهِهم وقَسماتِهم، لا تتجاوزُ عيناك ولا يداك ولا أيّة جارحةٍ منك ما ليس لها بحقٍّ، وهو ميسورٌ متاح، عفوٌ وصفحٌ وتسامحٌ دون حدٍّ، حبٌّ وإيثارٌ دون قيدٍ أو شرط أو مقابل، حبٌّ مُفرطٌ لكل مَن حولك دون حاجةٍ ترجوها منهم أو حتى سابقةِ لقاء، هو الحبّ فى الله ولله، فى أرقى وأبلغ معانيه دون أدنى تشويهٍ له بدنيا زائفة، لا يعرف عقلُك لمعانى الكُره لفظًا واحدًا حتى وإن سوّلت لك نفسُك بأنه لله، وكيف ذاك وكلّ مَن حولك وُجهتُه ومقصدُه الله؟! كيف ذاك وكلّ مَن حولك فى طاعة الله؟! لا يحملُ قلبُك حقدًا ولا غلّاً ولا حسدًا ولا بغضاء لأحدٍ من خلقه؛ فإنك إن فعلت فقد تركتَ آخرتَك التى أنتَ عليها وعُدتَ مسرعًا لدنياك بوضِرها ودنسها. حرصٌ على التزود من سوقٍ مَلْأى بشتى صنوف الخير تسبيحًا وتحميدًا ودعاءً. الحجُّ هو الحياةُ التى أرادها الله لنا مدّة حياتنا الدنيا، الحجُّ فيه المقصدُ الأرقى والأسمى، والذى من أجله أرسل الله رُسله، وهو أن نكون لله وفى الله.

◄ يسعدون بهم !!!
ولم تنتهِ نفحاتُ تلك الأماكن عند هذا الحدّ؛ فأذكر أننى فى حجتى هذه، وفى عرفات وقت الظهيرة قد أمسكت بهاتفي؛ وإذا بى ولأول مرة أسجل دخولًا -مجدى بعرفات- رغم ترددى فى ذلك بادئ الأمر؛ إذ لا أقوم بتسجيل دخولٍ فيما أرتادُه أنا وأسرتى من أماكن لاسيما المشاعر المقدسة، هذا يقينى وتلك قناعتي، إلا أننى وفى الأخير فعلتُها، ولا أنكر بأننى كم كنتُ متوترًا ومرتبكًا، وكم لُمْتُ نفسى على فعلتى هذه، وكأننى قد ارتكبتُ محرمًا لانشغالى عن عظيمٍ، إلا أنه قد جاءنى من فورى ما هدّأ من روعى وتأنيب ضميرى ووخْزِه قليلًا، وربَتَ على كتفى وأثلج صدرى بمَن يطلب منى الدعاء له فى هذا المكان الطاهر والموقف المهيب من أشخاص لم يخطروا لى على بالٍ فى هذا الموقف وفى تلك اللحظة، وليس بينى وبينهم ذلك التفاعل النشط على صفحتي.

وسواء دعوتُ لهم وتلفّظت بأسمائهم وقتها أم لا، وسواء تقبّل الله دعائى لهم أم لا، وسواء كنتُ بالرجل المخلص النقى فى هذا الموقف العظيم ممّن يُقبَلُ له دعاءٌ أصلًا أم لا، إلا أن فى دخولى فى هذه اللحظة واقتناص هؤلاء لتلك الفرصة وظهور أسمائهم فى هذا الموقف وفى تلك البقعة إنما هو كما تراءى لى رزقٌ ساقه الله إليهم وفضلٌ هداهم إليه، واختصهم به؛ فحمدت الله بأن جعلنى سببًا لذلك؛ فربما وجدها البعض رحمة من الله ساقها إليه بأن يُسخّر له مَن يدعو له فى هذه الأماكن، أو يُذكر فيها اسمُه؛ وقلت فى نفسى متأمّلًا : لا أدرى أيّنا ساقه الله للآخر؟! أنا لأدعوَ له أم هو ليقبلَنى الله به؟! وفى الأخير لا يدرى أيُّنا بأيّ سببٍ سيقبلنا الله؟! لأخلص من ذلك كله إلى أن نفحات تلك الأماكن قد تتسع لتشمل ربما أُناسًا خصّهم الله بذلك ولو بذكر أسمائهم فقط رحمة بهم ورضًا منه سبحانه عنهم، فذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء، فهؤلاء القوم لا يشقى صَحبُهم بل يسعدون.