«مشاهد أيام السويس٩».. قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل محمد

مشاهد أيام السويس٩ ..... قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل محمد
مشاهد أيام السويس٩ ..... قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل محمد

مشاهد أيام السويس٩... قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل محمد

محمد الراوى... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد!


ليلة العرس ورصاصة الخيانة ... (9)


... بعد أن انتهى الشاب من ضحكات لا يعلم لها سببا، نظر إلى شيخه الصامت وكأنه يفكر بعمق، وهو كما اعتاده يفرك بإصبعيه لحيته، وعيناه تدوران فى مقلتيهما لا يستقران على خير، كبلية الروليت، هو لا يسمع لدورانهما صوتا، وإن كان يتأهب لدوى أمر جلل، ارتعد الشاب وانهارت فرائسه عندما أطلق شيخه الأمر إليه بالذهاب إلى (الميضة) ليغتسل ويتطهر جيدا، وأكد الشيخ عليه: جيدا ! وعندما سأل الشاب بعينه فقط، ولم يحرك ساكنا منذ أن عبس الشيخ فى وجهه، فرد الشيخ على سؤال عين الشاب: لأنك الليلة ستكون عريسا، قالها الشيخ وبسط ذراعيه على انفراج واسع حوى كتفى الشاب، ثم استقرت راحتيه على عنق الشاب محمد الراوى، لم يعلم الشاب من هول المفاجأة هل يفرح أم يسأل أم ينطق برأى؟ هو لا يعلم شيئا عن أمره!، لكنه استجمع قواه وسأل شيخه: عريس! أنا عريس يا شيخ، هز الشيخ رأسه بالإيجاب، وهو يعلن من نظراته بمكافأة الشاب، سريعا رتب الشاب أوراق عقله وسأل شيخه: من هى العروسة، وأين البيت أو شقة الزواج؟ و... وقاطعه الشيخ بحدة: ألم أقل لك لا تسأل: وفقط قل: نعم، خاف الشاب من عودة الغضب لشيخه الذى قد يطيح بزواجه المجانى والذى لم يكلفه سوى سب الجيش وفقط، نظر الشيخ للشاب نظرة وعيد، وشاح بوجهه ناحية الباب المسجد، فطار الشاب حتى تبخر من أمام شيخه إلى خارج المسجد ثم دار حوله مرتين وكأنه نسى مكان (الميضة) ثم عاد أدراجه إلى حيث أتى، وثانية فر إلى أحد الأبواب يقرعها بشدة ليخرج من بداخلها، ووصلت الرسالة سريعا إلى هذا الذى بداخل المغسل، وخرج حتى زاحمه الشاب فى دخوله الى المغسل، وكانت الدقائق، حتى عاد لشيخه كيوم ولدته أمه!
جاء الراوى من أمام شيخه عجولا يريد منه الإفصاح عن تفاصيل العرس، لكن الشيخ المدرب (!) لم يلتفت إلى لهفة صيده، وتمهل حتى كاد الشاب أن يطير عقله، ثم أشار إليه بسبابته ليقترب منه، ووجد معه فى تنفيذ هذا الأمر الإشارى هذا الملاك الحارس يقترب معه أمام الشيخ، فغضب الشاب من تواجده، حتى سأل شيخه: إيه اللى جاب هذا الوحش معى أمامك؟ هو كمان ح يتزوج من نفس العروسة؟! قالها الشاب الذى فقد عقله، ورزقه على الله، ضحك الشيخ، وأبدى ما لم يتوقعه الشاب بعد سخريته من ملاكه الحارس، وقال الشيخ: لا ، وضحك، وحاول أن يكمل كلامه، لكنه فشل فى السيطرة على هيبته ورزانته، ويتمتم: هذا الشاب فيه شىء لله، وظل يضحك وتصرخ ضحكاته حتى فاح من فيه رائحة نتنة، وضع الشاب يمينه على أنفه من قبح الرائحة، وعبس بحاجبيه، وأبدى اشمئزاز من تلك الرائحة التى لا تبدو خلوف الصوم، فطن الشيخ لعزوف الشاب عن الاقتراب منه بسبب رائحة جوفه العفنة، وتردد، ثم قال: عذرا يا بنى فقد أكلت ثوما، ودون أن يشعر وضع يده على علبة من الصفيح مسطحة كأنها زجاجة دواء، وأخفاها فى جيب جلبابه، وبدى عليه التوتر بعض الشىء، لكنه المحنك، وهو أيضا المسيطر على كل شىء – هنا- وذلك كفيلا بتصديق الشاب لكلام الشيخ وأن خالف ما يراه الشاب بعينى رأسه، اعتدل من جلسته ناحية الشاب وقال له: ستذهب مع حارسك إلى معسكر الجيش أمام محافظة السويس، وهناك، أنت تعلم جيدا ما عليك فعله.
هم الشاب أن يقوم ، فجذبه الشيخ وقال له: اليوم هو يوم عرسك، وستستريح طويلا بعد هذا اليوم فاجتهد فى سبك للطواغيت، ودعنا نرى منك اليوم ما يفرح قلوبنا، ويهلك أعدائنا، هز الشاب رأسه بتفهم المهمة وإجادته في تنفيذها، وأشار إلى ملاكه الحارس ليتحركا، وبعد خطوات معدودات عاد الشاب لشيخه واقترب منه متحملا على نفسه نتانة أنفاس شيخه، وهمس إليه: طب كنا استحمينا ليه؟ مادام العرس فى المساء، ضحك الشيح ووكز الشاب فى كتفه، كأنه يبادله خفة الظل، وأبدى له من خائنة الأعين ما تعنى موافقته على زواجه بالمساء.
لم يستسلم الشاب ووجد فى دعابات شيخه فرصة للسؤال: يا شيخ، ورينى صورة العروسة؟ ابتسم الشيخ وقال لصيده: اصبر، وستفرح، هى كما تريد وأجمل أيها الشاب العجول، اذهب وانهى واجبك واترك عرسك على شيخك، انتصب الشاب واعتدل جزعه ووجد بالقرب من شيخه واحدا من هذين الشابين الصامتين، وتحرك الشاب ناحية ملاكه الحارس، ثم انطلقا الى ميدان السب، وما أن وصلا إلى هناك حتى اقتربت منه دائرة من الفتيان المقربين من شيخه، وما أن اطلق الشاب لسانه بالسب لجيشه، حتى سمع دوى انفجار صاخب أصابه بصداع قاتل صحبه سائل دافىء يسيل من خلف أذنه على رقبته، وينهمر فى مجراه إلى ظهره يشقه كأنه نهر شاب فتى في عنفوانه، غفى الشاب بعض وقت لا يعلم اتساع زمانه لكنه كان يسمع ملاكه الحارس يردد : الشهيد حبيب الله، وصدى المجاميع في الأنحاء يردد خلفه، ويعيد الملاك الحارس: الجيش قتل محمد الراوى، ويردد المجاميع من خلفه، يأتي صوت لم يحدده فهو لم يسمعه من قبل لكته قاوم الدماء التى تشكل سحابة غيم على عينه وبالكاد تلمس ملامح ذاك الشاب الذي كان واحدا من اثنين صامتين طوال الأسبوع الماضى كله، وهو ذاته الذى كان واقفا بجوار شيخه قبل انصرافه يأخذ عنه التعليمات والأوامر، وهو يصيح باجتهاد يشبه اجتهاده أمس: الجيش عدو الشعب... الشهبد حبيب الله، الآخرين يرددون خلفه هو الآخر، لم يدرى بحاله هذا الشاب لكن جسده كله كان يهتز ورأسه تتدلى لأسفل، إنهم يحملونه على أكتافهم، ويسيرون به فى شوارع السويس، حتى استقر بهم المسير إلى مسجد حمزة، وعلى أعتاب المسجد اقترب من ناحية رأسه الشيخ وفى يده فتاة صغيرة تصرخ: عريسى الشهيد محمد، قتلوه الطواغيت، عريسى الشهيد، كانت الليلة فرحه، وسيدات دون ملامح ترددن ورائها، والفتاة تبكى وهو لا يعرفها وهى لم تتعرف عليه إلا عندما وجهها الشيخ إلى جثمانه، وسأل الشيخ شبله الملاك الحارس هامسا فى أذنه وهما يقتربان من رأس الشهيد: تأكدت من موته، رد الشبل: نعم يا شيخنا، وتجرع الاثنان معا من ذات العلبة الصفيح مشروبا جعلهما يهللان ويكبران، وهمس الشيخ للملاك الحارس: الليلة، ليلة عرسك على خطيبة الراوى المغفل!        
فى القادم إن شاء الله نكتشف معا من قتل محمد الراوى، ومن دفنه.