«القبضة».. قصة قصيرة للكاتبة أمل البنا

صورة موضوعية
صورة موضوعية

تحلق الأطباء الخمسة حول المنضدة بإحدى مستشفيات الصحة النفسية بالعاصمة، تداولوا أوراق التقارير النهائية للمريضة هدى، يتنفس الصعداء وهو يعلن لشركائه أنه على وشك تحقيق حلمه لهذا العقار الذي عكف عليه سنواته السبع الماضية.. عاد في جلسته إلى ظهر مقعده بعد أن ترك الأوراق من يده. 

دكتور خالد : أظن أن التقارير التي وافيتمونى بها على مدار الأشهر الماضية كافية لأن نبدأ التجربة. 

دكتور مراد: كفاءة العقار التي تأخذ جرعاته لا أرى أنه يبد استجابة معها بدرجة كافية 

دكتور خالد: لا يبدى استجابة!!، عزيزى، أنت تتحدث عن حالة الموت والحياة كانا لها سواء 

د/ مراد: وما الفرق فيما كانت وما هى عليه الآن؟! 

د/ خالد : تشكك فى البيانات التى حصلنا عليها، تكلم يا دكتور نادر وأخبره عما كانت هدى و ما هى عليه الآن. 

د/ مراد: أعلم أننا كنا أمام حالة غارقة فى الذهول الكامل، لا تبدى أى استجابات بصرية وسمعية أو حسية منذ أن سلمتها لنا القوات من الشريط الحدودى. 

د/ خالد : نعم، ونعلم التفاصيل التى قد تكون تعرضت لها على أيدي القوات الإرهابية هناك.. لقد بدأنا جهدا مضنيا أنت تعلمه منذ أن تحققنا من الصورة المشوهة بردائها والتى يبدو بها خمسة أشخاص، ربما كانت هى منهم، أكانوا لها أبناء، إخوة؟، هل منهم الزوج ،أم الأب أم الأم..؟ أعطيناها العقار الذى سأثبت لكم بالتجربة أنه قد ضاعف من قدرات الوعى لديها لترتد إلى الواقع شيئا فشيئا.. أعرف أننا نخترق فراغا لا ندركه، غير أننا غامرنا جميعا حول كيانها البائس الغامض.. جئنا لها بأصوات العصافير وماء النبع، أصوات أشخاص وأطفال دائمى النداء باسمها وبكلمة ماما، أجلسناها فى ضوء القمر وتحت كرمات العنب.. بعد كل هذه الشهور من المعاناة والعمل ، بدأت بأول الاستجابات للنداء باسمها. 

د/ ماهر: حقا، تشعر في حركات عينيها الزائغة مؤخرا بزحف جليدى يسلب أوصالها، لتسقط بعدها فى تشنجات توحى بأن هناك شيئا ما يتردد فى عالمها البعيد. 

د/ مراد: هذا ليس معياراً للنجاح. 

د: خالد: لقد عادت إلى الحياة وسقط الحجر فى البئر الراكد وآلت الخيوط الآن لقبضتنا. 

د/ مراد: قد لا تحتمل وهى غير كاملة البناء لتلك الصدمة. 

د: خالد/ عليها أن تخرج عن هذا الصمت.. أن تأتى بأى كلمات حتى ولو كانت غير مفهومة. 

د/ مراد: ألتثبت للعالم وهم عقارك الجديد؟، أم لتجمع التبرعات للاجئين بمشفاك الخيرى؟ 

د/ خالد: عقارى ليس وهما، وإنها لفرصتى التى سأحظى بها لأعيدها للحياة من جديد. 

د/ مراد: أتعتقد أن من ترك الحياة يمكنه العودة من جديد؟ 

د/ خالد: هذا الخيار قد أصبح لى 

د/ مراد:.. إذاً لا مفر من التجربة. 

د/ خالد: .. دكتور جميل، كنت المسئول عن الإشارات التى أرسلناها للذاكرة لها عبر الجهاز خلال ساعات نومها. 

د/ جميل: نعم، ومن الواضح مؤخرا أن الجهاز بدأ يسجل انفعالات متزايدة، مما يشير إلى أنها بدأت ترى خلال نومها الحلم. 

د/ نادر: هذا الأسبوع قد كثفنا به جرعات عقار التافلى DN2 والجهاز سيعمل على إرسال الموجات فوق المتوسطة لتسجيل الإشارات التى ستنفعل بها مع كل المؤثرات البصرية والسمعية. 

د/ خالد وهو ينظر للساعة فى يده: أظن أن الوقت قد حان لتسجيل التجربة.. أمامكم نصف ساعة من الآن لتكون المريضة بالحجرة المعدة.. اعلموا أنكم شركاء عمل عظيم يسعى العالم عقودا للوصول إليه.. نحن فقط من سيسجل التاريخ له هذا السبق.. 

جاءوا بها وأجلسوها إلى المقعد المعد بكل أسلاك الاتصال.. سلطوا ألوانا متتابعة على عينيها المتحركة فى كل اتجاه، وجلسوا حولها للمتابعة.. بدأ إرسال الأصوات يتوالى إلى أذنيها والأضواء الخاطفة. 

هدى .. ماما.. أبى ..هدى.. أحضرى الشاى.. هدى .. سأذهب إلى المدرسة يا أمى.. العيد جاء أبى .. أمى.. الأمطار تغمر الطريق ..صوت قطار .. نفير السفن الراحلة.. هدى .. أمى .. بكاء طفل .. لا.. حفلة عيد ميلادى.. ضحكات صبية تملأ الدار.. أمى .. هدى..اجمعى الثياب قبل العاصفة ..أين حذائى؟..الشمس..هذا المساء..أريد طعامى..لنتسابق..هدى..أصوات السنونو. 

سجل الجهاز إشارات ترددية خافتة، تراجعت، لتعود من جديد 

تقف في بؤرة الكرة الزجاجية، تلمح ألوان الطيف المبهرة في العالم المسحور.. (من يناديني؟..أين أنا؟) ..ترى أشجار الزيتون.. ندف الثلج العالقة بأوراق الغار.. نار المدفأة وقصص الأبطال.. (أين قطتى يا حسام؟..عاد أبى من غابة الفرلق بأخشاب السرو وعين الجمل.. أمى.. كل عام وأنت بخير، هذا الشال صنعته من أجلك، تُقبل يديها، بينما يتدافعون لتقديم هداياهم لها، تتيه فرحا فى ثوبها.. لم يلتفون حولى؟.. أكنت عروسا؟..تلك الشموع.. مجد..مجد..)

د/ نادر: دكتور خالد، الإشارة عالية هذه المرة عن سابقتها. 

د/ خالد: نعم وتتنامى فى ازدياد، وهذا يؤكد أننا فى الطريق،جميل عليك الآن بأصوات القذائف وطلقات الرصاص 

د/ مراد: لمَ؟، لا تفعل. 

د/ خالد: أرجوك ، نحن لسنا فى نزهة هنا فالزم الصمت

أغمضت عينيها على دار واسعة.. تبحث فى جنباتها عن مهد الصغير..يرصد الصقيع أوصالها المرتعشة.. ضحكات وبكاء يلاحقنها..أثر ضئيل للضوء الغائم فى الأتربة السابحة.. تهوي.. يعلو الصوت، ويبقى حبل الخلاص عالقا بالأرض.. تتمكن أن ترفع الجسد المثقل..تركض، فتكتشف أنها تحمله بين ذراعيها وسط أتون الحرب في الوديان.. أهوال تقتلع الليل.. تتعثر في طرق ما عادات تحمل نفس العنوان.. أشلاء ودمار.. )لا.. أبى، أمى، لا لا لا(. . تصرخ ..جرذان ونعيق البوم.. تسقط.. 

انتفض جسدها المتشنج في نوبات صرع محموم،محاولة الإفلات من مقعد البعث الذي أحكموا وثاقها إليه. 

د/ خالد: جميل، خفف الموجات على الجزء السفلى من الرأس، وأضف يا نادر المتبقي من العقار للكانون. 

تتراخى أعصابها المشدوهة.. تتفصد عرقا باردا 

يحملها مجد وحسام لبيت أحد أقاربها بأطراف الغابة.. تحتوى صغيرها، بينما تقتفى آثارهما التى اختفت بين أشجار الحور لينضما للمقاومة هناك.. أيام وأسابيع تنتهي في وحل المطر .. سنا البرق هذه الليلة أفزعها.. تهرع لصغيرها ترضعه حنانا يدفئ جسده المرتعش.. تتجمد من هول قرعات البنادق فوق الباب.. اقتحموا البيت و ألصقوهم إلى الجدار.. جاسوا بالأوحال فى كل الأركان.. فتشوا الأوراق.. رائحة بنادقهم المسلطة إلى رؤوسهم .. تبتهل.. ضحكاتهم الساخرة تدوى في هوة الفضاء.. ساقوها كأمة تسقط فى زمن الأوثان.. أوغاد ..تصرخ ..( وا معتصماه، وا معتصماه) ، .. ترقد في دنس الوحل الأبدى.. تحمل صغيرها وتقرر الفرار.. لأى البلاد ترحل؟ ..أيهم تختار..؟ .. قذائف تهوي.. ترتعد الدماء بثوبها، لتكتشف أنه كان الفداء .. تركض بلا توقف بالأدغال ..تسقط..

د/ نادر : يا إلهي، ليس بها أي نبض 

د/ خالد: ماذا؟ أعط صدمات القلب سريعا 

انتفض جسدها مع كل صدمة، ليعطى الجهاز صفيره النهائي 

د/ جميل: .. لقد ماتت. 

د/ خالد: مستحيل، مستحيل.. هذا غير معقول 

د/ مراد: لماذا ترى أنه مستحيل؟! 

د/ خالد: لأن العقار والجهاز لا يوجد بهما أى ضرر قد يؤدى للوفاة. 

د/ مراد:.. إذا، فقد رحلت حيث كان ينبغى لها الرحيل هناك. 

د/ خالد: ماذا تقول؟ 

د/ مراد: أقول، أن عقارك قد نجح فيما فشل به القناصة على الحدود. 

د/ خالد: لمَ لا تقول أنها لو أفشت عما يدور فى رأسها لكان فى استطاعتنا الوقوف إلى جوارها. 

د/ مراد :..أتظن أننا هنا للوقوف إلى جوارها..؟

اقرأ أيضا«ذو القدم المسلوخة».. قصة قصيرة للكاتب محمد فايز حجازي