«واحد .. صفر» قصة قصيرة للكاتبة مارا أحمد

كاتبة مارا أحمد
كاتبة مارا أحمد

واحد، اثنان، ثلاثة، ...، سبعة، ...، عشرين، ...

هذا البرج لم يمر وقت طويل عليه حتى ارتفع ليصل إلى أكثر من عشرين طابقا، إسمنت ورمل وحصى، استطالت كما علبة طويلة ذات مساحات يسجن بداخلها أثرياء يطلون على نهر النيل؛ يشاهدونه من أعلى في استعلاء من تفوق عليه وتملكه بل وصار ينظر إليه من السماء.

واحد، اثنان، ثلاثة، ...، عشرة، ... بل نسيت الرقم ... إنه رقم يشير إلى عدد الكافيتريات ومطاعم وكافيهات وأندية تحمل رموز ق.م لقد طالت تلك الذراع حتى إنها أخفت ملامح ذلك النهر الحر واعتقلته لنفسها، فلا حق للعامة أن يلمسوا ماءه أو أن تنظر عليه أعينهم؛ أصبح لهم حصريا، منذ عدة سنوات حيث كان النهر حرا والشاطئ حرا، كنا نسير هنا، نستند على سوره لننسى الحر، نتناول سندوتشات ونلعب في الجنائن التي تمتد بطوله حتى حلوان، فالمصيف كان رفاهية لا نمتلك حتى القدرة على الحلم به.

واحد، اثنان، ثلاثة ... عدد من يبتسمون، قلَّ العدد رغم أنه الخميس والجو يبشر بالربيع والدفء.

واحد، ...، عشرين، ...

تاهت مني الأعداد، فإعلانات المسلسلات التي سيتم عرضها على شاشة التلفاز لا حصر لها وكلها إعلانات فاتنة لا علاقة لها بشهر الصوم، بل تنفي وجوده، لقد اعتاد المصريون تحويل كل مناسبة دينية إلى احتفال ووليمة تتنوع شكلها على حسب المناسبة، وفي رمضان تتعدد المسلسلات وبرامج التوك شو التي تستمتع بالنميمة وأسرار الفنانين، فالصيام إعلاميا عن الطعام والشراب، أما باقي الشهوات فهي تتألق وترتفع أصواتها وتتكشف، أفلام ومسلسلات وبرامج بل وإعلانات تثير في النفوس الحقد والغل والضغينة؛ فهنا إعلانات لشقق فاخرة بحمام سباحة وكمباوند مغلق للأثرياء، وأراضي للتمليك اشتراها أحدهم بقروش ليبيعها بملايين والمستفيد طبقة جديدة أعادت عصر الإقطاع بشكل عصري، وإعلانات للتبرع لمستشفيات السرطان وفشل الكلى والكبد والبلهارسيا على الجانب الآخر، ما بين التسول والتفاخر يتمزق المواطن.

واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة...

عدد إشارات المرور التي تحاول تنظيم سير السيارات التي تنافس عدد البشر والسائرين على الأرصفة.

واحد، اثنان، خمسة، ثمانية، ...، تسعة عشر، ...

مللت من الإحصاء لعدد رجال الأمن الذين يفتشون المارة بالدراجات البخارية والسيارات الأجرة، فالكل متهم بالخيانة حتى تثبت براءته، فيطول وقت الانتظار بين الإشارات ويزداد الازدحام والاختناق والشعور بالاغتراب وأنت بين الأهل.

لماذا أحصي الأشياء؟ لماذا لا يكف عقلي عن تسجيل الأرقام؟ لماذا لا يسكت فقط ويأخذ قسطا من الراحة بعيدا عن الإحصاء والنقد والمراقبة؟

الطاقة السلبية كانت ذات جرعة عالية يوم أمس؛ حيث فارقني أحد رفقاء الرحلة والحياة، صاحب الشقاء، يبدو أنه ترجل عن القاطرة، فلم يشته مواصلة الطريق واكتفى بأن يهبط أرضا للراحة.

سائق الميكروباص في غضب يسب امرأة تقود سيارتها وفي فمها سيجارة، صبَّ جام غضبه عليها سبابا ولعنات، أفقت من عملية الإحصاء على سبابه غير المنطقي والذي وإن نمَّ على شيء فإنما ينم عن كراهية لجنس المرأة وغضب منها بشكل عام، فالنقمة عليها لم تكن لعداوة خاصة بينها وبين سائق الميكروباص ولا الركاب؛ فهنا في بلدي يعشقون النساء ويكرهونهن في وقت واحد، وكأنه الانفصام الذي انتشر بيننا أو ربما كان حقدا عليها، فهي تقود سيارتها الخاصة ولا تلمس ما يعانيه السائق والركاب بجواري من ارتفاع لسعر البنزين والكهرباء والغاز بل والأكسجين، أو قد يكون تنفيسا للغضب؛

فلقد اعتدنا أن نتلقى الإهانة من الأعلى ونصبها على الأضعف: طفلا كان أم امرأة. تلفت حولي لعلي أجد رجلا يدافع عن تلك المرأة التي لا ذنب لها في مشاكلهم التي خلقتها حكومات وفساد يستقبلونه وكأنه القاعدة والعدل هو الشذوذ، لكن لأول مرة أجد رجال بلدي يتفقون على رأي واحد، وكان اجتماعهم على سب تلك السيدة التي اشترى لها زوجها اللص تلك السيارة، وأن ما نحن فيه من لعنات وغضب من الله سببه تدخين تلك المرأة للسيجارة وقيادتها للسيارة. ما اعتدت يوما أن أسكت على ظلم أو أخشى من قول الحق، ولكن هذه المرة اكتفيت بأن أشاهد وأحصي وأسمع لما ينطقه لسان الرجال وما يفصح عما بداخلهم من عقيدة وثقافة، سكتُ وواصلت المشاهدة والإحصاء من شباك الميكروباص.

والآن أنا، عشرة، عشرين، خمسين، ... السلالم أنهكت ركبتي وظهري؛ كنت أقفزها منذ عدة لحظات، الآن استحالت ثقيلة كما وأني أرفع أحد حجارة الهرم الأكبر؛ تعذيبا.

واحد، اثنان... لماذا تتصاعد السلالم معي ولا تريد أن تنتهي وتصل بي إلى شقتي؟

تضع المفتاح في الكالون وتدخل وما زالت الأرقام تصاحبها؛ حاولت أن تستمر في العد، ولكن لا أحد من أبنائها هنا؛ فالعدد هنا هي والصفر.