هل تشرق حضارتنا الجديدة من المغرب؟

د.سعيد توفيق
د.سعيد توفيق

المفكر الكبير والناقد القدير د.سعيد توفيق استاذ الفلسفة بآداب القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة أهدانا هذه السطور التى تنقل إلى القراء نبض رحلته الأخيرة إلى المغرب التى سافر إليها مشاركا فى فعاليات حدث ثقافى كبير هناك.

حينما نتحدث عن الحضارة فإننا نقصد بها المعرفة والثقافة وليس مجرد مظاهر الحداثة والتحديث فى أساليب العيش؛ ومنذ سنوات عديدة لاحظت أن مركز ثقل الثقافة العربية قد اتجه من المشرق العربي، خاصة من أوسطه الذى كانت مصر بؤرته ، وبدأ يميل نحو المغرب العربي، وتحديدًا نحو مملكة المغرب التى تعد الآن بؤرة هذا المركز، وهذا أمر عجيب: ذلك أن هذا المركز الذى أصبح الآن نقطة مضيئة فى واقع الثقافة العربية هو بالضبط الموضع الذى انتحرت فيه هذه الثقافة، ومن ثم الحضارة العربية؛ فبينما كانت الثقافة العربية فى ذروة تألقها من خلال أعمال ابن العربى.

اقرأ أيضاً | انطلاق مؤتمر «الهيروغليفية» في مكتبة الإسكندرية غدا

وابن رشد، وابن طفيل، وأبى حازم القرطاجني، كان الفكر المحافظ يستشرى فى المشرق العربي، حتى إن الإمام الغزالى قدم لنا كتابه الشهير الذى ينتقد فيه الفكر الفلسفي، وهو «تهافت الفلاسفة»، فرد عليه الفيلسوف ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت».

ولكن الفكر الرجعى المحافظ المعادى للفلسفة والتفكير العقلانى قد انتصر فى النهاية بإحراق كتب ابن رشد، وأظن أن هذه لحظة فارقة دالة على أفول الحضارة العربية، ولكننا الآن نجد أن الثقافة والفكر الفلسفى يعودان مجددًا على استحياء إلى الموضع نفسه الذى لفظا فيه أنفاسهما: المغرب العربي. وتلك مفارقة بلا شك لا يبددها سوى الاعتقاد فى الحركة الدائرية للتاريخ..  

منذ أسبوع تلقيت دعوة كريمة من معالى محمد المهدى وزير الثقافة بمملكة المغرب، لإلقاء محاضرة عن «الترجمة أداةً لتحديث الثقافة العربية». لا يمكننى الخوض فى تفاصيل المحاضرة من خلال هذه العجالة، ولكنى أريد أن أتوقف عند هذا الحدث الثقافى المهم. التقيت أصدقاءً ومثقفين وأدباء كبارًا من أمثال الشاعر العظيم أدونيس، والفيلسوف المغربى الأصيل عبد السلام بن عبد العالى الذى رشح اسمى كضيف على المعرض. ولكنى أريد فى هذه العجالة التوقف عند صديق مشترك لى، ولأدونيس، ولعبد السلام بن عبد العالي، وهو وليد حمارنة أستاذ الأدب المقارن الذى عمل أستاذًا بجامعات أوروبية وأمريكية وكندية.

عرفته منذ سنوات عديدة، وشاركته فى ندوة منذ عشر سنوات بمعرض الكتاب بسلطنة عمان، ولكننى فى هذه المرة قد اكتشفت أستاذيته الحقيقية التى لم أصادف مثلها من قبل: هذا أستاذ أدب وناقد فذ؛ بالضبط لأنه يعرف تفاصيل الأصول الفلسفية للأدب والنقد الأدبى منذ عصر قدماء اليونان حتى يومنا هذا!! ولا عجب فى ذلك حينما نعرف أنه قد درس على الفلاسفة الكبار، ومنهم أدورنو على سبيل المثال! كان يحدثنى عن أمور دقيقة فى تفاصيل المذاهب والنظريات الفلسفية قديمها وحديثها. هذا هو نموذج الناقد الحقيقى للفن والأدب؛ لأن فلسفة الأدب والنقد الأدبى لا يمكن تصورهما من دون التبحر فى أصولهما الفلسفية؛ فما بالك بنقاد الأدب فى عالمنا العربي، وفى مصر خاصةً، الذين نالوا حظًا واسعًا من الشهرة من دون أن يكون لهم أى باع فى فهم الأصول الفلسفية للنقد الأدبي؛ فأمثال هؤلاء يتنطعون على النقد الأدبي، ويرددون مصطلحات وعبارات منقولة عن الماركسية والبنيوية والتفكيكية والفلسفة الظاهراتية، إلخ، من دون أن تكون لهم معرفة حقيقية عن المفاهيم والمصطلحات التى يتحدثون عنها ويزعمون أنهم يقومون بتوظيفها!! عرفت هؤلاء من خلال الخبرة واللقاء المباشر، وعرفهم وليد حمارنة من خلال حواراته معهم.

ومن خلال ما يكتبون. يعرف وليد حمارنة هؤلاء المزيفين الذين رحلوا عن عالمنا، ويعرف الصغار الذين يسيرون على نهجهم فى توظيف المفاهيم والمصطلحات من دون أن تكون لهم أية معرفة بأصولها. فإذا كان ما يسمون بكبار النقاد فى عالمنا العربي، وفى مصر خاصة، على هذا النحو من الجهالة، فما بالك بالتلاميذ الذين هم فى معظمهم من المتنطعين على الفكر والفلسفة؛ ومن ثم على النقد الأدبي!! أدهشنى أن وليد حمارنة يعرف هؤلاء واحدًا واحدًا بالاسم..    شاركت وليد حمارنة فى ندوة بمعرض الكتاب بالرباط عن «الترجمة بوصفها أداة لتحديث الثقافة العربية».

كان اللقاء جادًا مثمرًا، وقد غلب عليه الحوار مع الحاضرين المتعطشين للمعرفة. وربما يبدو هذا المعرض صغير الحجم، فهو لا يزيد على حجم جناح فى معرض الكتاب بالقاهرة أو الرياض. ولكن شئون الثقافة والمعرفة لا تُقاس بالحجم أو الكم، وإنما تُقاس بالكيف والمحتوى، وهذا ما بدا واضحًا فى هذا المعرض؛ ليس فقط من حيث نوعية المعروض من الكتب الرصينة، وإنما أيضًا من حيث نوعية الجمهور المثقف المتطلع إلى المعرفة.


 لقد كتب أستاذنا الجليل د. زكى نجيب محمود كتابه «الشرق الفنان»، ليميز طبيعة الشرق عن طبيعة الحضارة الغربية التى قامت على العلم والمعرفة، ولكننى لا أعتد كثيرًا بهذه التقسيمات الثنائية: فالشرق لا يمكن اختزاله على هذا النحو؛ لأن الحضارة العربية كانت أيضًا مُنتجة للمعرفة والعلم فى شتى المجالات؛ كما أن الغرب لا يمكن اختزاله فى وحدة واحدة هى الحضارة الأوروبية، وبوسعنا الآن أن نتحدث عن غرب آخر هو الغرب كما يتمثل فى المغرب العربي.