«مشاهد أيام السويس7».. قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل محمد

 محمد نبيل محمد
محمد نبيل محمد

محمد الراوى... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد!

تكليف الشيخ للشاب بسب الطواغيت ... (7)

فر الشاب المذعور من أمام هذا الرجل السارق، كأنه يفر من قسورة، وهو يهرول إلى شيخه ملبيا نداءه، كان يردد "بطل" ... أنا بطل! ربما الشيخ لم يقصدني أنا!، ومن الممكن أن تكون زلة لسان وقع الشيخ فيها، المهم أنني هذا هو البطل ما دام سينجني هذا النداء من ذاك المفترس.

 

 من المهم أن أشكى إلى شيخي عن هذا الشبح الذى يجدني دائما ويسلب أموالى، وإذا كان من الممكن أن يكون قاطع طريق بالشارع أمام المحطة، فكيف يستقبله الشيخ بالمسجد؟! وما كل هذه الحرية التي ينعم بها ذاك اللص في التحرك داخل المسجد؟ وقبل ان ينتهى الشاب من تساؤلاته التي اعتادت أن تأتيه ليلا، لكنها ومع صدمة سرقة أمواله جاءته مبكرا وفي الصباح، سأله الشيخ: أنت ما كلتش ليه؟ كأنت عينا الشيخ تسأل سؤالا آخر، والشاب يتوارى منه، وأحاط الشيخ بسؤاله المكنون حتى حاصر الشاب، الذي لم يجد بدا إلا من الإجابة على سؤال صامت، يا شيخ: نعم أنا أعرف هذا الرجل العريض الذى خلفي، هناك في نهاية المسجد بالقرب من الباب الكبير، ولم يندهش الشيخ من رؤية الشاب لرجله الشرس وتحديد مكانه بدقة رغم أن الشاب لم يلتفت خلفه ليشير إلى الرجل، إلا إن الشيخ أومىء برأسه، وابتسم منتصرا برجله الذي رهب هذا الشاب وروعه، في هذا نفع كثير لما هو قادم، وسريعا استثمر الشيخ حال الشاب المفزوع، وسأله: كنت بتدور على أيه؟

 

رد الشاب قبل أن يطلق زفيره: عن مالي يا شيخ، هذا الرجل – هناك- هو من سرق مالي، وبعجب شديد لم يخفيه الشيخ، سأل: مالك، سرق، ما الأمر يا بنى؟! نجحت خطة الشيخ في استدراج الشاب إلى مراده، وهنا بكى الشاب وأغزر من الدمع وأجهش بالصوت حزنا على ماله الذي ادخره طيلة الأسبوع من جانب، ومن ناحية أخرى أراد أن يزيد من استعطافه للشيخ الذي يأويه ويرعاه، وكان يستهدف أو ينشد من شيخه الآمر الناهي بالمسجد أن يعيد له ماله، لكن خطة الشيخ قد نجحت، فباغت الشاب مندهشا: وهو كان مالك أيها الشاب الكسول؟ رد الشاب متلهفا: نعم ، أيوة مالي، فلوسي يا شيخ، فأعاد الشيخ السؤال بلهجة تهديد تشبه لهجة ذاك الرجل السارق: متأكد أنه مالك؟ إذا كنت على يقين بأنك تملك هذا المال، أعدته لك على الفور.

من أداء الشيخ ورنة صوته الصاخبة التي دوت في قرار الشاب كما الصاعقة، استسلم الشاب ونطق بصوت طفولي متلعثم: ما... ما... هى الفلوس التي أعطيتها لى يا شيخ، رد الشيخ بسخرية: وهو أنا قلت لك أنها أموالك وحقك، وهز منكبيه مستهزءا برد الشاب، ولم يعطيه فرصة ليرد، وقال: لازم يكون المال مالك إذا أنت عملت به، هل أنت عملت طوال الايام السابقة، هز الشاب رأسه بالرفض، لكن عيناه كأنت تقول نعم، وبادره الشيخ: أرد أنا عليك، يا بنى الفلوس ديه كأنت أمانة معاك، وكنت بامتحن أمانتك، وأنت نجحت في الامتحان، لما كانوا الأشبال بيراقبوك كل ليلة وكل صباح وأنت بتعد الفلوس، وكأنها فلوسك، من خوفك عليها لتضيع منك وطبعا كنت ح أحاسبك، ولأنك نجحت في الامتحان الأول، وهو "الأمانة"، لازم تجهز نفسك للامتحان التانى وهو "الطاعة" وخد بالك لا الأمانة عمل تاخد عليه فلوس، ولا الطاعة كمان عمل يحق لك تقاضي راتب عليها، تجرأ الشاب ولفظ من جوفه سؤال كاد يقتله كتمانه: أمال امتى أخد فلوس يا شيخ؟

 

أنا جيت من الشرقية للسويس علشان الفلوس، الفلوس وبس، سأله الشيخ تحب تاخد كام يا محمد؟ برقت للحظة عين الشاب ونظرت لأعلى وكأنه يرى ما يطلبه، حتى أن الشيخ هو الآخر شاهد حلم الشاب ومطلبه الوحيد فوق رأس الشاب التي دارت حول الحلم كما الطواف، قال الشاب تقدر تدينى أد إيه يا شيخ؟ سخر الشيخ بضحكة عالية دوت حلقات موجات صداها في أرجاء المسجد، والعجيب أن لا أحد من الحضور التفت ناحية صوت ضحكة الشيخ، وكأنهم اعتادوا ذلك منه، سوى هذين الرجلين الجديدين كانا في ذهول، إلا أن الأشبال قاموا بدورهم في ترهيب هذين الجديدين وإلزامهم الأدب مع الشيخ في عدم تتبع تصرفاته بالملاحظة والرصد.

 

 ومزج الشيخ كلامه بالضحك الواثق، ورفع كفه الأيمن منبسطا إلى السماء ثم هوى به مشيرا بسبابته إلى موضع النحر من عنق الشاب، ثم قال بصوت هادىء ممتد النطق لكل حرف: كل حاجة ليها تمن (!) وانتظر الرد من الشاب الذى هوى في مصيدة الشيخ واستسلم لشباكه، وعلى الفور انصاع الشاب للشيخ وللمرة الأولى ناداه : اللي تؤمر به يا (شيخي) أنا رهن السمع والطاعة، قالها الشاب وتعجبت رأسه من هذه المقولة التي ينطق بها لأول مرة في حياته، فلم يذكرها ولو لمرة واحدة لشيخه الحقيقي الذي علمه القرآن بكتاب القرية، ولم يسمعها من قبل، كذلك اندهش الشيخ لسرعة استجابة الشاب وتعلمه بما يعني سهولة استجابته للأمر المقبل،

وبالفعل استثمر الشيخ الفرصة التي سنحت بلا مجهود وأمر الشيخ: اليوم سيكون اختبار عظيم لمعرفة مدى ولائك وقدرتك على الطاعة، انتبه الشاب وجعل من كيانه كله آذان صاغية لشيخه، وما سيتلوه عليه من أمر واجب النفاذ، اعتدل الشيخ من اضجاعه وجلس ناصبا ظهرا مصعرا رأسه، وقال بحدة: طبعا أنت عارف الطواغيت، هز الشاب المستسلم رأس بالرفض، وأكمل الشيخ هم رجال فرعون، عليك بسبهم، وتلقينهم درسا بالحجارة اليوم، وغدا لنا معهم أمرا آخر، انهى الشيخ كلامه في صيغة الأمر والتكليف للشاب وهو يحدق بعينه بشدة مخيفة، واستجاب الشاب، لكنه مازال لم يعرف من هم الطواغيت ومن هو فرعون، وعندما هم ليسأل عما لا يعرفه، سبق لسانه عقله بالسؤال عن المقابل، وبلغة واثقة من سهولة التنفيذ قال لشيخه: عايز اشتم كام ساعة يا شيخ؟ والساعة بكام؟ ولو سمحت يا شيخ أنا ح شيل الفلوس معاك علشان ما حدش ياخدها مني وابقى مطمن على أموالي معاك.

وتلفت لأحد الأشبال الذى يعرفه جيدا، هذه المرة تعالت ضحكات الشيخ حتى سمعها من هم خارج المسجد، وقال له: أنا ح اديك ألف جنيه عن الساعة وكل ما تزود يزيد أجرك في المال وفي الثواب، وخد مني الفتوى دي: سب الجيش ثواب ما بعده ثواب.

اطمأن الشاب بعد فتوى شيخه بالثواب ووعده بالألف جنيه عن الساعة، وظل يفكر في أمرين هما: كيف سيسب الطواغيت ويسخر منهم؟ وإلى أى مدى سيفلح في عدم استفزازهم حتى لا يقبضوا عليه ويخسر هذا العمل السهل واليسير؟ أشار الشيح إلى أحد الأشبال ليأتيه، واقترب منه الرجل حتى انحنى كما أنه يركع لشيخه، وأسر الشيخ للرجل، ثم اعتدل الرجل الشبل، وأمسك بيد الشاب محمد الراوي، وقال له: من الآن أنا تابعك، وحارسك الأمين حتى تلقى ربك، لا يعلم الشاب لماذا اطمأن لكلام حارسه الذي يبدو من كلام الشيخ معه سرا أنه يطلب منه الحفاظ على محمد وحمايته، ولم يفكر في باقى كلام ملاكه الحارس(!) وخرج الرجل الشبل مع الشاب المنصاع إلى خارج مسجد حمزة، وسار معه في آمانه، ولأول مرة يخرج من المسجد بعد أسبوع كامل لم ير فيه نور الشمس، ووجد خلفه التجمعات من الأشبال تجاور الرجال والشباب والأطفال والنساء.

 

واتجه الجميع إلى المبنى الذى يسبق معهد اللغات، وتموضع الجميع في حلقات يبدو أنهم في معظمهم اعتادوا عليها وقد حفظ عن ظهر قلب كل منهم مكانه وهتافه، وقبل مائة متر من السلك الشائك أمام تموضع رجال الفرقة 19 المكلفة بتأمين المحافظة والمحكمة والمديرية وهنا بدأ الهتاف ضد الجيش، ووكز الملاك الحارس كتف الشاب بشدة أعلمته بوجوب الانقياد له والامتثال لأوامره، وعلم أيضا أنه الميقات للزمن والمقيم للجهد عند شيخه في نهاية النهار، ونظر الشاب محمد إلى مخارج ألفاظ الملاك الحارس ليحفظ عنه السب والشجب والدعاء بالهلاك والوعيد بالهزيمة للطواغيت، وكرر للمرة الأولى على لسانه كأنه يتعلم الكلام، كان يتلعثم، ويعيد، ويردد، ويتأخر عن المجاميع، وشيئا فشيئا حفظ ببراعة الشاب محمد سب جيشه من أجل الألف جنيه التي وعده بها شيخه الجديد، حتى أصبح كترس في ماكينة يكرر مع المجاميع ممتثلا لملاكه الحارس الممثل لشيخه الجديد.

كان محمد في وسط المجاميع يلعن ويسب ويكفر جيشه، وملاكه الحارس يشيد بجرأته بإعجاب يزيد من حماس محمد في السباب والانفعال بالتكفير والتطاول، حتى مرت الساعة الأولى، وأمسك الحارس بيد محمد ليعيده إلى شيخه، وأعلن محمد رفضه ترك الميدان، وأراد أن يزيد من السباب والتكفير ساعة ثانية، وبعد انتهائها استعطف ملاكه الحارس أن تكون ثلاثة، وهمس إليه سأعطيك من الساعة الثالثة نصف أجرها، ابتسم الملاك الحارس بالموافقة، وفي رأس محمد عداد وميقات للزمن وللجنيهات، ومن فرط الحماسة تجمع المجاميع حول محمد الراوي، وأخذوا يدورون حوله في حلقات، ورويدا فرويدا كان يبدأ لسانه بالسباب ويكرر خلفه المجاميع حتى اكتملت الساعة الرابعة، واكتفي محمد بالثلاثة آلاف وخمسمائة جنيها عن هذا اليوم، وأمسك بيد حارسه ليعودا إلى شيخه يتقاضى راتبه دون أن يمسكه بيده.  

في القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف أصبح محمد بوقا لشيخه، وما هو التكليف الجديد له من الشيخ.في القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف أصبح محمد بوقا لشيخه، وما هو التكليف الجديد له من الشيخ.