«النافذة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

الدكتور صلاح البسيوني
الدكتور صلاح البسيوني

من خلف مكتبة البني .. الذي يعلوه صفوف متراصة من دفاتر الحسابات وإيصالات المشتريات وسندات الصرف والقبض .. وفي الركن الأيسر منه آلة كاتبة صغيرة تقبع في حقيبتها .. اتجه ببصره عبر النافذة الزجاجية .. كانت الريح شديدة تهتز لها أفرع النخلات الأربع القابعة خلف أسوار الحديقة .. وعلى البعد مبنى بنى اللون تشغله إحدى الشركات الهندسيه .. أرتفع ببصره فوق أدوار المبنى الأربع .. إلى قبة السماء .. التى على الرغم من ظهور شمسها في دلال وحياء ـ. حتى لا تكاد تشعر بها .. فأنها كانت تنذر بالكثير من الخير والنماء .. أمطارا تهطل على طول البلاد .. وعبر السحب كانت طائرة ركاب تشق طريقها بين تكتلات السحب الداكنة .

ومن هذا العلو .. ارتد بصره إلى أسفل .. فلم يرى سوى تلك الكتل تتخللها مساحات بيضاء .. لا يرى من خلالها سوى مساحات بنية .. أعقبها اللون الأزرق .. لتخرج الطائرة في اختراقها عنان السماء عابرة البحر الأحمر إلى خارج الأسوار والحدود .. وها هو يرنو ببصره إلى المساحات الخضراء التي بدأت في الظهور .. يخترقها شريط أبيض متموج طويل .. ثم بدأت الكتل السكنية في الظهور والنمو والتجسد .. حيث العاصمة بكثافتها وزحامها .

شق طريقه وسط الزحام .. بعد أن غادر المطار سريعا فلم يكن يحمل أي حقيبة .. وقطع التاكسي الطريق الفرعي إلى منزله .. ليجد نفسه أمام أبنائه وجها لوجه .. احتواهم في صدره .. وأسكن زوجته قلبه .. وإعتصرهم في حنين وحنان .. ارتوى ظمأه .. واطمئن عليهم .. وجال ببصره إلى كل ركن في المنزل يسترجع لحظات ذكرى .

ها هنا جلسته المفضلة أمام التليفزيون والفيديو .. وهنا ركن القراءة .. هنا غرفة نومه الكبيرة .. وهذه غرفة نوم الأطفال .. هنا يرشف فنجان الشاي كل صباح في سرعة دائما قبل الخروج .. وهو يسمع صوت زوجته تطالبه بأن يتناول فطوره قبل أن يخرج .. دون جدوى .. من هنا إلى هناك تسحبه الذكريات .. ليرتفع ببصره إلى النجف المعلق بسقف الصالة .. الذي اعتاد أن يتولى مهمة تنظيفه .. ولا زال في انتظاره .

وهذه نافذة الغرفة لا يزال إطارها متآكل من أعلى .. والشمس في الخارج ساطعة .. والسماء صافية .. وطائرة ركاب تمخر عباب السماء .. والأرض والخضرة والنيل .. يبتعدان ويختفيان عن الأنظار .. وعبر كتل السحب الداكنة التي بدأت في الظهور .. ينظر ليرى شريط أزرق يعبرة .. ومساحات بنية وصفراء .. وكتل أسمنتية متفرقة .. لمدينة تهطل عليها أمطار اليمن والبركات .. والخير والنماء .. ومبنى بني اللون من أربع طوابق .. وأربع نخلات طوال .. يسيل من فروعها خيوط المطر إلى أسوار الحديقة الحجرية .. وزجاج النافذه تصعب الرؤية من خلفه .. لتموج قطرات الماء عليه .. والآلة الكاتبة تقبع في حقيبتها بالركن الأيسر .. وسندات الصرف والقبض .. ودفاتر الحسابات أمامه .. ودفتر بين يديه يخط به رحلة استغرقت الساعة من هنا .. إلى حيث الوطن والبيت والزوجة والأولاد .