يوميات الأخبار

شرارة استدعاء الحنين!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

يبتسم كل منّا وهو يسمع كلمة «حاج» أو «عمو»، ويسخر من عمره الضائع، ويشعر بكثير من الأسى إذا جاءت من حسناء، لأن الكلمة فى هذه الحالة تكشف له أنه شيخ يخدع نفسه بأحاسيس الشباب الزائف!
ربيع يونيو

الأربعاء:

أصبح الأمر يُنذر بمشكلة. فى البداية كنتُ أشعر بالفرح، لأن التليفزيون تحوّل إلى آلة زمن، تمضى بى فى مسار إجبارى تجاه الماضى فقط، بينما تُعوّض أحلام اليقظة مُتعة الرحيل إلى المستقبل!

بمُجرّد أن أبدأ متابعة الشاشة ينطلق التداعى الحرّ للذكريات. حتى لو لم يرتبط المعروض مباشرة بأية ذكرى، فإن العقل يخلق روابط وهمية تستدعى ذكريات تبدو مناسبة لمعظم الأفلام والمسلسلات والأغنيات التى تقع فى طريق عينيّ.

فى البدء تمضى المشاهدة وفق الأنساق المعتادة، وفجأة تومض شرارة استدعاء الحنين. تخرج حاسة الإبصار من الخدمة، ويحل مكانها بثّ مُباشر من الذاكرة. جميل.. أين المُشكلة إذن؟ المشكلة أننى لم أعُد قادرا على متابعة أى عمل بتركيز كامل، حيث تقاطعنى دائما فواصل طويلة من «السرحان»، الذى يتنوع حسب الحظ بين ذكريات سعيدة أو حزينة.

أصابعى تعبث بالريموت كونترول. أتوقف عند قناة تبثّ مشاهد مباشرة من الحرم المكيّ. كالعادة تتداعى الذكريات، لكنها تستقرّ عند زيارة وقعت فى ظروف ضبابية. كانت العُمرة فى يونيو 2013، توزّعت الدعوات فيها بين طلبات شخصية، منها ما تحقّق ومنها ما ينتظر، وأخرى عامة لكنّها مؤثّرة فى مصائرنا الذاتية. هناك دعوتُ كثيرا أن تزول الغُمة، فى وقت زادت فيه حدة الاحتقان لأقصى مُعدلاتها. مشهد سياسى مأزوم بفعل جماعة حاولت سلْب الوطن وتغيير ملامح هُويّته، بينما الغالبية يحاولون الحفاظ على مدنية البلاد.

وسط كل هذا ظهر المثقفون فى المشهد بقوة، وأصبحوا فاعلين ومؤثرين فى مسارات الأحداث، لتصير المواجهة أكثر عُمقا. فى مغامرة غير مأمونة العواقب سيطر المبدعون على مبنى وزارة الثقافة، ليُثبتوا أن الفكر ملاذ آمن للحريات، وقوة لا يسلبها وصف «الناعمة» قدرتها على التغيير، من شارع شجرة الدر بالزمالك أعلنوا العصيان على الظلام، وتصدّوا لكل محاولات إرهابهم. 

بعد يومين أو ثلاثة من عودتى من العُمرة اندلعت ثورة يونيو، واحتشد البشر فى الشوارع رغم حملات الترهيب. الغريب أن أبواق الجماعة أصرّت على أن صور الحشود اصطناعية، رغم أن غالبيتنا كانوا شهود عيان ومشاركين فى صناعة الحدث. وفى النهاية فرض الشعب إرادته بقوة الكلمة.. وانتصرت «لا» على من قالوا «نعم»، وعادت أجواء الربيع لتطيح بخريف عام مضى. 

حتى موت آخر!

الخميس:

بينى وبين الأمراض اتفاقيات شراكة استراتيجية. بدأت تواجدها المُزمن فى جسدى منتصف الثلاثينيات من عُمري. مع كلّ مرض جديد تصيبنى صدمة مؤقتة، سرعان ما تتراجع أمام طبيعتى التى تتأقلم مع الأمر الواقع، لكن التجربة هذه المرة جاءت مُختلفة. لن أكرّر ما قلتُه ونشرتُه، حتى لا أشعر أن حالة التعاطف منقطعة النظير من الأصدقاء منحتنى نشوة، أرغب فى تكرار الإحساس بها.

اقترب الموت منى إلى نقطة غير مسبوقة، لن أدّعى أننى انشغلتُ بأى شيء، حتى الخوف منه لم يُصبْني، ولم أتخيل كعادتى فى لحظات الفانتازيا التى تجتاحني، ما سوف يكتبه البعض عني، من باب المحبة الخالصة أو تأدية واجب نقوم به غالبا.

كل ما شغلنى هو الإحساس البغيض بالغثيان، الناتج عن «دوخة» رفضتْ أن ترحل بعد أن تأخذ وقتها، وعرفتُ أن سببها الانخفاض الحاد فى الضغط، رغم أننى أعانى من ارتفاعه.

عموما انتهى الأمر فى المستشفى، وإن استمر الشعور بالضعف العام، حتى اللسان الذى أعتبره أقوى أعضائى لم يعُد حصانا جامحا، بل أصبح مثل جواد يعانى من ألْف كبوة، وينتظر رصاصة الرحمة.

قلتُ إننى لن أتحدث عن ذلك ثانية، لكنى كالعادة ثرثار يُكرّر الحكايات نفسها، إلى أن يشعر المحيطون بى بالملل. بعدها بأيام أدركتُ أن الموت ابتعد عني، واختار شخصا آخر.

مثلما يحدث كل مرة جاءنى خبره من فيس بوك، صفحة وفياتنا التى ضربت نظيراتها فى الصحف الكبرى، خاصة أنها تمنحنا فرصة النحيب على الهواء مباشرة.

إنه يوم الأحد. رحل الروائى حمدى أبو جليّل دون سابق إنذار، وهو الذى كان ينعى آخر قبلها بساعات، ويعلن اشتياقه للأديب الكبير إبراهيم أصلان قبل سبعة أيام. يأتى الخبر فأشعر بالصدمة، ربما لأنه واحد من أبناء جيلى مما يعنى أن المصير المحتوم يقترب.

جيل يتآكل رغم أن أبناءه فى عُرف الكثيرين لا يزالون صغارا. صغار تجاوزوا الخمسين؟ نعم إننا كذلك فى عيون من هم أكبر سنّا، بينما نُفاجأ بكلمات جارحة للمشاعر ممن هم أصغر بعقود. يبتسم كل منّا وهو يسمع كلمة «حاج» أو «عمو»، ويسخر من عمره الضائع، ويشعر بكثير من الأسى إذا جاءت من حسناء، لأن الكلمة فى هذه الحالة تكشف له أنه شيخ يخدع نفسه بأحاسيس الشباب الزائف.. والشيخ لن يعود أبدا إلى صباه!

لم أقابل حمدى منذ زمن طويل.. جدا. ربما يتجاوز خمسة عشر عاما بسنوات قليلة! وهكذا قد تبدو صدمتى لرحيله مُفتعلة بالنسبة للبعض، فالقطيعة غير مبرّرة، خاصة أنه يحيا فى نفس المدينة، بل ويدور فى فلك وسط البلد الذى لا تفصلنى عنه سوى خطوات. لم يكن حمدى وحيدا أو منسيا كى ألوم نفسى على الإهمال، فكلنا مُهمِلون ومُهمَلون خارج دوائرنا القريبة، التى نمارس فيها حضورنا بدرجات متفاوتة القوة، لهذا أؤكد لكم أننى لا أنعيه من باب تأدية الواجب.

حتى لو لم أتصل به فى مناسبات عديدة، أهمها لحظة فوزه بجائزة نجيب محفوظ، وكلمته البليغة بعدها فى الجامعة الأمريكية. هو أيضا لم يكن يتصل، وربما كان سيكتب على حسابه نعيا لى لو أكمل عزرائيل مهمته معي، وسوف يعتمد فى نعيه فقط على ذكريات قديمة، قدْ يتعب فى النبْش عنها بذاكرته، لكن يكفى أن بدايتنا مع أبناء جيلنا واحدة، غالبا لا نذكر لحظات اللقاء الأول، بينما تظل بعض التفاصيل باقية. أما النهاية فمذاقها ثابت، إنه الفقد المصحوب بندم القطيعة غير المُبررة. قطيعة نمارسها حاليا مع آخرين، ونعود لنذكرهم أو يتذكروننا حين موت آخر!

عبودية الآلات

 تأخر ابنى فى رحلة بحثه عن «حُقنة» غير متوافرة. هاتفى بعيد ووحيد فى السيارة لهذا انقطع التواصل. سألنى الطبيب فى المستشفى عن رقمه ليطلبه من هاتفه فأخبرتُه أننى لا أحفظه. المحلول الذى ردّ لى بعضا من روحى أعاد لى جزءا من قدرتى على الثرثرة الفكرية. تلك الأجهزة الحديثة تسلبنا قدراتنا تدريجيا لتجعلنا عبيدا لها. قبل أكثر من ثلاثين عاما كانت ذاكراتنا فولاذية، تحفظ أرقام عشرات الأرقام الأرضية، دون أن تشكو من الامتلاء أو بلوغ حدها الأقصى. الآن لا نشغل أنفسنا بالحفظ، تماما مثلما نسى معظمنا جدول الضرب، بعد أن عانينا فى طفولتنا من الضرب لحفظه. الكلّ يهرول إلى الآلة الحاسبة على المحمول، وكأننا نُفرغ ذاكرتنا البشرية لأمور أهم.. لا أعرف ما هى تحديدا! 

 الأرقام ليستْ وحدها المُستهدفة بمؤامرة الماكينات، بل الخطوط أيضا. أكتب لكم الآن من على جهاز «لاب توب»، ينسخ الحروف بالملامح نفسها لكل من يستعملونه، حتى لو اختار كل منا شكل خط مُختلف، تظل الخصوصية غائبة. سنُدرك يوما أن الخط البشرى كان نعمة أضعناها. أحيانا أضطر للكتابة بالقلم، لأكتشف أن خطى يصير أكثر رداءة تدريجيا.

أذكر الحصص المُخصصة لتعليمنا فنون الخط وأنواعه، وأترحم على أساتذة يشعرون بالسعادة غالبا فى قبورهم، لأنهم رحلوا قبل اكتشاف أنهم أضاعوا فى الأوهام أعمارهم. ولأننى مقتنع بأن لحظة التقاء القلم بالورقة تمنح الكلمة روحا، قرّرتُ التوقف عن الكتابة على الجهاز، واستكمالها على الأوراق كى لا أصبح مُتهما بازدواجية المعايير.

بعد نصف ساعة من المحاولات وعشرة أوراق ممزقة لضحالة ما فيها، اكتشفتُ أن تفكيرى أصبح مُرتبطا بهذا الجهاز، قرأتُ الفاتحة على خطى المُنقرض، وعُدتُ لاستكمال الكتابة هنا!

ما لا يطلبه المستمعون!

الثلاثاء:

«ملحوظة: هذه الفقرة للكبار فقط.. ممن تجاوزت أعمارهم الخمسين!»

التصنيف العُمرى السابق يستهدف ضمان تفاعل القرّاء، فالشباب لن يستوعبوا غالبا تراث الأغنيات التى تشحن عاطفتى بالشجن، وربما يبتسم بعضهم ساخرين من انتمائى وجدانيا لزمن غطّاه غبار النسيان، لكن إذاعة الأغانى تحاول أن تنفضه باستمرار.

من مذياع السيارة ينساب لحن بديع للموسيقار بليغ حمدي، يُمهد لصوت الساحرة عفاف راضى وهى ترجو حبيبها: «حاسب وانت ماشى وهدّى خطوتك..

لَتْدوس وانت ماشى على قلوب حبّتك»! ظلّ اللحن يصيبنى بالحزن على قلوب غدر بها الزمان فخرجتْ ولم تعُد، وهو إحساس تدعمه كلمات الشاعر محمد حمزة: «حاسب لو شُفت مية.. على الأرض مندّية.. لَتْكون دمعة حبايب يومها مستنية.. تحكى لك إيه جرى لها فى ليالى عذاب بطولها». 

مع تكرار الكلمات أتوقف فجأة عند عبارة يُفترض أنها مؤثرة: «لَتْدوس وانت ماشى على قلوب حبّتك»!! قد يرى البعض أن الصورة بديعة، غير أن القلوب المُلقاة على الأرصفة تُثير دهشتي. أضحك وأنا أتخيل دقّاتها ترتفع، وهى تهرب فى كل اتجاه، خوفا من خطر الدهس بأقدام طائشة، لحبيب نذل اعتاد التلاعب بصاحباتها. ضحكتى تُخرج زميلى محمد صلاح من شروده وينظر لى مُتعجّبا، وقد ظن أن الوعكة الصحية أثرّت على قواى العقلية.

أشعر بالخجل وأتصرّف كأن شيئا بهاتفى المحمول دفعنى للضحك، ثم أعود للتركيز مع الأغنية البديعة وأنا ألعن أفكاري. ألم أقل لكم منذ البداية أن الأمر أصبح يُنذر بمشكلة؟!