«جعران ستي سنية» قصة قصيرة للكاتب عبد النبي النديم

الكاتب عبد النبي النديم
الكاتب عبد النبي النديم

تتحسس صدرها، تطمئن إلى استقراره في مكانه، فهو لا يفارق السلسة المعلقة في رقبتها منذ أن ورثته من والدتها، التي ورثته عن أجدادها، أصبح رفيقها الودود، تستريح لوجوده دائما بجوارها، منذ أن إختارها الجعران من بين أخواتها البنات والذكور أن يكون رفيقها، فقد تركته والداتها وهى على فراش الموت، من قبضة يدها ليزحف متجه ناحيتها دون أخواتها، فالعرف منذ جدودها معروف أن الجعران هو من يختار رفيقه، يعيش معه حتى الموت، وإذا أجبر الجعران على الخضوع لشخص ما، يؤرق مضجعه بالكوابيس المزعجة وضيق الرزق وكثرة المشاكل، وفي النهاية يتركه ويذهب لمن يختار رفقته من الورثة.

تنزل الحاجة سنيه من على سريرها القديم، صاحب العمدان الأربعة الذي يجمع بين عمق التاريخ الموروث من الأجداد، يتسم بالفخامة والتفرّد، يوفر الألفة والهدوء والطمأنينة أكثر ما يوفره من الدفء، رمز من رموز الخصوصيّة المصرية، صامد أمام اختبارات الزمن، يرتدى مع كل وريث حلّة مختلفة، تجعله أنيقًا ومنسجمًا مع من يألفون أحضانه، كواحة وارفة وملاذ آمن للنائم، في رحاب عبق التاريخ الذي يشبه حكايات الخيال.

تضع ستي سنيه قدمها على الدرجات الخشبية، بعد أن استعجلتها في مقابلة جارتنا أم محمد التي تنتظرها على الباب: قائلة لي: حاضر زهرة أنت مستعجلة على إيه، أنا جايلها أهو وروحي علقيلنا على الشاي.

أخرج من الحجرة ممسكة بيد ستي سنيه، التي استقبلت أم محمد بالأحضان وكأنها قادمة من سفر، على الرغم أن مجلسهم على المصطبة يوميا بعد العصر أمام باب المنزل، وأتركهم إلى المطبخ أعد لهم الشاي.

خير يا أم محمد في حاجة؟ ما كنا مع بعض إمبارح..

ترد عليها ضيفتها بعد التأكد من عدم وجود أحد بالمنزل يسمع حديثهما: أيوة والنبي يا حاجة سنيه، قصدينك في الجعران الأخضر، مرات ابني بقالها يجي سنتين، ولسه ربنا ما أردش وتحمل وتجبلنا حتة عيل يملا علينا الدار، يمكن ربنا يجعله سبب ويرزقهم بالذرية الصالحة.. بركاتك يا حجة سنيه.

تبتسم ستي سنيه لضيفتها، وأنا مقبله عليهم بصنية الشاي، ما أنا قلتلك من زمان يا بهية وإنت مش سامعة الكلام، ومش راضية، الجعران دا سره باتع.

تمد يدها إلى صدرها، وتفك السلسلة المربوطة على عنقها، وتضعه على الترابيزة أمامهم، تتمتم بكلمات كأنها تحدث الجعران، فيتجه إلى حيث تجلس بهية.

تنفرج أسارير ستي سنيه لاستجابة الجعران لصديقتها بهية، وتمسك الجعران بكلتا يديها، تعطيه لها وتؤكد على كيفية التعامل مع الجعران، قائله: خلي ابنك يلف الجعران بشال أبيض، ويربط الشال على وسطه، ويقرأ الفاتحة والمعوذتين قبل ما يجي ناحية مراته، وأوعي يربط الجعران من قدام، يربطه من ناحية ظهره، هو ما بيحبش يكون في الوسط بينه وبين مراته، لأحسن يزعل منهم، وربنا كريم يا أختي.

تتهلل أسارير بهية، وتأخذ الجعران من يد ستي سنيه، تلفه في طرحتها السمراء تخفيه وتحضنه كأنه كنز عثرت عليه، تقف مستأذنه..

تمسكها ستي سنيه من ذيل جلبابها، رايحة فين يا بهية الشاي بتاعك..

تبتسم لها بهية إبتسامة واسعة، أنا أخدت اللى أحسن من الشاي، وتهم بالخروج، وتقف بعد عدة خطوات، متقلقيش يا حجة سنية، هو كل ليلة لازم الجعران يكون معاه وهو مع مراته على السرير؟

تضحك ستي سنيه: لا هى ليلة واحدة بس، وكفاية إن الجعران مش هينام في صدري ليلة كاملة، أصله دا ونيسي في الليل الطويل.

توجهني ستي سنيه: وصلي ستك بهية للباب يا زهرة.

أعود لستي سنيه التي تعد السبرتاية وكنكة القهوة، تعد قهوتها الصباحية، أنصحها بأن تتناول إفطارها أولا، ترد عليا وهى تدير مطحنة البن، هشرب فنجان لحد ما تحضري الفطار وباقي أخواتك يصحوا من النوم.

أتجه إلى المطبخ ..أقف في منتصف الطريق، أعود إلى ستي سنيه أسألها: مش هتقوليلي بقى حكاية الجعران دا يا ستي؟

تضحك ستي سنية: حضري الفطار وبعدين نقعد نتكلم..

أجلس بجوار ستي سنيه بعد الفطار، بعد أن قمت بغسل عدة القهوة لها، أضعها أمامها، أحاول أن أستميلها وتفتح شيهتها لتحكي عن قصتها مع الجعران, تأخذ تنهيده عميقة تخرج بزفير من صدرها، وتنظر إلى لهفتي لسماع الحكاية بنظرة تنم عن الملل من إلحاحي.. طيب إقعدي جنبي..

زمان ..أمي ورثت الجعران من أمها، وأهم شرط في ميراث الجعران هو قبوله بمن سيرثه، وتاني شرط أن الوريث لا يستفيد من الجعران بشيء ولا يستخدمه لحاجة عنده، هو مجرد رفيق للجعران وما يطلبش حاجة منه، وكل اللي كان الجعران من نصيبة رضي بإنه يكون رفيق الجعران وبس، ومع الألفة والمودة والرعاية بيه، الجعران أخد عليا وارتحت لرفقته معايا مبقاش يفارقني في أي مكان أروحه، وخلى حياتي كلها بركة، ومفيش مشكلة قابلتني، إلا وربنا يكرمني وتتحل في ساعتها، ودا اللي حصل معايا، طول عمري، مفيش مشكلة أو أزمة تحصلي ألا وألاقي في المنام شخص عليه هيبه كبيرة، وكأنه ملك من ملوك زمان، جاي ومعاه ناس كتير واقفين وراه، يقعد على الكنبة اللي جنب السرير، نقعد نتكلم ونفضفض مع بعض، يواسيني ويفتح باب للكلام والحديث اللي ملوش آخر، لحد ما أصحى مع صلاة الفجر أصلي، صدري مرتاح وبالي رايق والمشكلة مش موجودة.

والأهم في الجعران إنه عنده حياء، مرة كنت في الحمام ونسيت أسيب الجعران في صندوقه في الأوضة، وقبل أشيل هدومي من عل جسمي، الجعران قعد يتنطط على صدري، فخفت يكون حصل له حاجة، خرجت بسرعة من الحمام، ورجع لهدوءه تاني بعد ما حطيته في الصندوق، ولما نمت جالي الحارس في المنام، وحذرني إني مكشفش نفسي أدامه.

تسأل زهرة ستها سنيه تحثها على الاسترسال في الحكاية: والجعران دا يا ستي أصله منين، وفعلا الكلام اللي بيقوله الناس عنه دا حصل؟

أنا قريت في الكتب عن الحضارة المصرية إن فيه ناس من كل بلاد الدنيا وشخصيات عامة كتيرة بيروحوا يزورا جعران معبد الكرنك، علشان يلفوا حواليه عند البحيرة المقدسة في الأقصر، وبيقولوا إن الطواف حول الجعران بحقق الأمنيات واحد عاوزة تخلف وواحدة طالبة الزواج، واحد طالب التوفيق فى مشروع، واحد طالب إنه يبقى غني .. وغيره كتير، الغريب بقى أن الناس بتأكد إن الأمنيات بتتحقق.

تضحك ستي سنية: أومال يا زهرة، دا فيه الروح، بيحس بكل اللي حواليه، بس النية بس تبقى صادقة، ومعظم الجعارين سواء كانت خواتم في الإيد أو سلسلة بتتعلق على صدورنا، أو تميمة تعلق في البيت، كلها تعاويذ من أيام أجدادنا القدام أوي.

ترد زهرة على ستها سنيه: فعلا يا ستي أنا قريت فعلا في كتاب « موسوعة مصر القديمة» للدكتور سليم حسن، اللي بندرسه في الجامعة، أن المعتقدات القديمة عند الفراعنة كانوا بيطوفوا حول جعران البحيرة المقدسة 5 مرات، لإبطال الحسد وجلب الحظ السعيد، والطواف 3 مرات من أجل الثراء، والطواف 7 مرات بهدف إنجاب الأطفال، وتطوف الفتاة الراغبة في الزواج 6 مرات، وهذه الأساطير الفرعونية انتقلت إلى المصريين في كل العصور، حتى إن هناك بعض السائحين، يقومون بزيارة جعران البحيرة المقدسة علشان المعتقدات دي.

وجعران «البحيرة المقدسة»، بمعبد الكرنك أشهر جعران في العالم كله، لارتباطه بفكرة الأساطير، وهو عبارة عن قرص الشمس «رع»، المثبت على حجر من الجرانيت الوردى، بطول 190 سم ويبلغ وزنه 5 أطنان، وتم تصميمه في عهد الملك أمنحتب الثالث في القرن 14 قبل الميلاد، والناس زمان اعتقدوا إن خنفساء الجعران ذكور فقط ليس لها إناث، تضع بذرتها في حبة من مادة تشكلها على هيئة كرة من الروث تجرها وراءها، تدفعها بأرجلها الخلفية، محاكية بفعلها هذا مسيرة الشمس من الشرق إلى الغرب.

وكمان يا ستي قالوا إن الطواف حول الجعران مرتبط أكثر بالمورث الشعبي ومش بالعقيدة الفرعونية، اعتباروها تعويذة لوقاية الإنسان من الشر والحسد، والنقوش على الجعارين شواهد على تأثير هذه المعتقدات الخرافية على عقول المصريين في كل العصور، أعتبروها تعاويذ أكثر منها حلي يلبسونها أو أختامًا للملوك؛ كان يظن أنها تحمي حاملها من كل أنواع الأذى في الحياة الدنيا وكذلك حماية صاحبها في الآخرة، والنقش على الجعران يجلب السعادة لحامله، اعتبروه تضرع للإله أن يمنح صاحبه «بداية سنة سعيدة»، وبعض السيدات كن يتزين بالجعران ليُرزقن غلمانًا، وكان الرجال يلبسون الجعران من أجل أن تبقى أسماؤهم مخلدة على الأرض، وكان الحُجاج الأتقياء يلبسونها لتضع لهم سياحة سعيدة لبيت الإله «آمون» بالكرنك ..أساطير عاشها المصري القديم، معتقدا أن الجعران يكمن بداخله قوة الحياة..

تقاطع الحاجة سنيه حفيدتها زهرة: بس ..بس!! إيه دا كله اللي أنتي بتقوليه ده، أنا مليش في الكلام بتاع الكتب بتاعكوا دا، أنا اللي عيشته مع الجعران والعشرة والمودة اللي بينا، واللي شفته معاه ميلقش عليه حجر، أنا بتعامل مع بشر بيحس بأوجاع الناس، مفيش حد طلب مساعده منه إلا وربنا كتبله الخير، والناس في بلدنا والبلاد اللي حوالينا من ساعة ما رافقت الجعران يشهدوا بالحظ لما الجعران يكون معاهم..

تقاطعها زهرة: بس يا ستي بيقولوا على كل ده خرافات، والجعران دا ما هو إلا حجر لا يضر ولا ينفع، ولكن الوهم بوجود الجعران وهو السبب في تحقيق الأمنيات ضرب من الخيال، وكون إنه بيتحرك ويمشي، بسبب إن الحجر المصنوع منه الجعران يتفاعل كيميائياً مع المواد الحمضية، فيتخيل الناس إنه بيمشي، الفراعنة صنعوا الجعران من مادة الفاينس، لونها أخضر تميل إلى الأزرق، مكتوب عليه عبارات مكتوبة باللغة الهيروغليفية، قالوا أنها تعاويذ سحرية، وبعدين صنعوا الجعران من الحجر والعقيق والزمرد والفيروز والبازلت، وصولا إلى الذهب والفضة..

لكن يا ستي في حاجة جوايه فعلاً من ساعة ما شفت الجعران بتشدني له، وحاسة خلال الأيام اللي فاتت إني بتقرب منه.

ترد عليها ستها سنيه: اصبري شوية يا زهرة ..هتعرفي بعد ما أموت الفرق بين الكلام اللي بتقوليه، وبين قيمة الجعران تيمة الحظ لتحقيق أمنيات الناس الغلابة، والجعران هيفضل في خدمته لكل اللي يحتاج له، ومتنسيش الجعران هو اللي بيختار رفيقه، ومن ساعة ما أمك ماتت وأنا قلبي حيران، لكن أنا دلوقتي قلبي مطمن، بالرغم من الكلام بتاع الكتب اللي دماغك مليان بيه..

تحاول زهرة أن تخرج من ستها سنية بأقصى معلومات عن الجعران خلال عشرتها الطويلة معه، تقارنها بما جمعته من معلومات عن الحضارة الفرعونية القديمة، فما قرأته شيء وما شاهدته من الجعران شيء آخر.

بس أنا قريت يا ستي عن المجال الخفي للعلوم المقدسة عند الفراعنة، وكان السحرة والكهنة هما اللي بيعملوا الآثار دي، وكانت هذه الطقوس السرية محاطة الغموض والجاذبية الخفية، ومرتبطاً بالسحر في معظم الحالات واللجوء إلى القوى الشيطانية أوالإلهية كما يدعوا مباشرة، لدرجة إن السحرة توصلوا لامتلاك قوة يؤثرون فيها على الطبيعة والناس والأشياء، لدرجة إنهم توصلوا لإسقاط المطر وإثارة العواصف، ودونوا هذه التعاويذ أكثر مظاهر السحر ظهوراً في تراث مصر القديمة، وقد صنعها المصريون من الأقمشة والجلود والأخشاب ودونوا عليها التعويذة لحماية جسم الإنسان الحي أو الميت من التأثيرات المؤذية ومن هجوم الأعداء، مثل طقوس الجعران وأسطورة «خاتم إيزا» ..

تقاطع الحاجة سنيه حفيدتها زهرة: إنت صدعتيني وسيبك من كلام الكتب اللي مالي دماغك، المكتوب هنشوفه، قومي اغسلي العدة، عاوزة فنجان قهوة يظبط دماغي اللي صدعتيها.. أقوم مسرعة أحمل عدة القهوة واتجه للمطبخ، ولكن صورة جعران ستي سنيه ثبتت في مخيلتي، وأحاول أن أطرد الأفكار التي تقرب بيني وبينه، فكيف أعتقد في هذه المعتقدات التي يعتقد فيها كل أهالي قريتي والقري والمجاورة..

تسرع زهرة إلى الباب بعد إصرار الطارق على إيقاظ من في البيت، وفور أن فتحت الباب، قابلتها الحاجة بهية بزغرودة أيقظت كل من في المنزل، تنظر إليها زهرة مندهشة عن سبب الزغرودة في هذا الوقت المبكر من الصباح، سارعت الحاجة بهية بالسؤال عن ستي سنيه: فين الحاجة سنيه وش الخير والبركة، مرات إبني حامل، أنا جايه أبشرها أول ما النهار طلع، كانوا عند الدكتور إمبارح وأكدلهم إنها في الشهر التالت، وتتركني خلف الباب وتذهب مسرعة إلى غرفة ستي سنيه، تدفع باب الغرفة بما تحمله من فرحة بداخلها، تجد الحاجة سنيه ممدة على السرير العمدان نائمة هادئة.

بفرحة عارمة تهز بهية الحاجة سنيه .. إنت لسه نايمة يا وش الخير، قومي مرات إبني حبلت..

لم تستجيب الحاجة سنيه لهزات رفيقتها، تصمت بهية قليلاً، تعود وتهز رفيقتها بقوة، لتسقط يد الحاجة سنيه بجوارها، فتطلق صراخاً يهز أركان المنزل، تسرع زهرة قبل جميع من في البيت، بعد أن أيقظهم زغاريد جارتهم بهية، ليصدموا بصراخها الخارج من غرفة الحاجة سنيه، تقفز زهرة على درجات السلم الخشبية أسفل السرير، لتأخذ جدتها في أحضانها تحاول إفاقتها، جميع من في المنزل التفوا حول السرير العمدان، الذي انطفئت هيبته بصعود روح الحاجة سنيه لبارئها..

في وسط البكاء والعويل، الذي ملأ الغرفة، كان هناك حركة خفيفة صادرة من صدر الحاجة سنيه، لاحظها كل من في الغرفة، تهللت أساريرهم بعودة الحاجة سنيه للحياة..

لكنهم تذكروا فجأة الطقوس التي يجب أن تتم في هذا الوقت، عند شاهدوا الجعران الأخضر يخرج من طوق جلباب الحاجة سنيه، إلى رقبتها وتعلقت أعينهم بحركته البطئية، التي ألهتم عن ألم الفراق للحاجة سنيه، التي تكومت في أحضان حفيدتها زهرة، ليتسلق الجعران على ذراع زهرة، ويخترق طوق جلبابها المنزلي، ويستقر داخل صدرها..