بينالي الدرعية للفن الإسلامي: حكايات عن الحاضر والماضي

أمنية عبد البر وسعد الراشد وجوليان رابى وسمية فالى
أمنية عبد البر وسعد الراشد وجوليان رابى وسمية فالى

مخطوطات ومصاحف، منمنمات وزخارف، سجاد ومنسوجات، صور ولوحات نادرة، مفاتيح الكعبة وكسوتها وبعض أعمدتها القديمة وأبوابها الذهبية ومنابرها التاريخية، محاريب، وشمعدانات من الحرم النبوى. 

ليست هذه المعروضات القيمة فى الدورة الأولى لـ«بينالى الدرعية للفن الإسلامي» الذى اختتم أعماله الأسبوع الماضى فى مدينة جدة السعودية هى فقط ما مثل وعودا بالمتعة البصرية والذهنية، كان هناك – أيضا- ما هو أهم من محاولة لتجميع أكبر قدر ممكن من القطع الفنية من مختلف متاحف العالم فى مكان واحد، إذ طرح البينالى أسئلة تخص الواقع الآنى. لم يكن عودة إلى الماضى بقدر ما كان اشتباكا مع أسئلة الحاضر، كما أن فكرة العرض نفسها القائمة على سرد رحلة روحية، تحاول أن تقدم مزجا بين الجديد والقديم، وعبر هذا المزج تتوالد الحكايات التى تقدم ملامح وثقافة الحياة الإسلامية عبر لغة الفن.

اقرأ ايضاً

 ترجمة القرآن الكريم على مائدة اتحاد الكتاب

 

بعيدا عن لغة الأرقام الكاشفة بالتأكيد، أقيم البينالى على مساحة 118 ألف متر فى خمس قاعات عرض، وجناحين كبيرين، تم عرض 280 قطعة أثرية يعرض بعضها لأول مرة، وأخرى تم استعارتها من متاحف عالمية مثل متحف بيناكى فى أثينا، وتاريخ العلوم فى جامعة أكسفورد، والفن الإسلامى التابع لمتاحف برلين العامة، واللوفر فى باريس ومتحف فيكتوريا وألبرت فى المملكة المتحدة، ومتحف الفن الإسلامى فى مصر، ومتحف الفن الإسلامى فى قطر.

وفضلا عن مجموعة الصباح فى دار الآثار الإسلامية بالكويت ، كما عرض أيضا 50 عملا معاصرا، وتم اختيار فريق تظيمى دولى لاختيار وترتيب وتنسيق هذه الأعمال ضم الباحث وعالم الآثار السعودى سعد الراشد، والدكتورة أمنية عبد البر، زميلة صندوق بركات فى متحف فيكتوريا وألبرت؛ وجوليان رابى، المدير الفخرى للمتحف الوطنى للفنون الآسيوية، وسمية فالى المديرة الفنية للبينالى. 


وبرغم اختيار عنوان «أول بيت» عنوانا وشعارا للبينالى، فى إشارة إلى الكعبة، مع ما يحمله العنوان من مدلولات دينية إلا أن تنسيق المعرض والأعمال المشاركة يتجاوز المفهوم الدينى، ويتجاوز أيضا كونه «مجرد معرض بسيط للأشياء غير الحية من الأراضى البعيدة والقرون البعيدة، ليقدم فرصة رئيسية لتوسيع التفاهم الثقافى، وإلهام وجهات نظر جديدة، وتحديد الاتجاهات، والبدء فى أحاديث حول الفنون الإسلامية» حسبما قالت فريدة الحسينى، مديرة البينالى.


كما تقيم الأعمال العاصرة المعروضة فى البينالى حوارا مع الماضى، وتكشف عن الاستمرارية، وهو ما توضحه أمنية عبد البر: «الفن الإسلامى فن معاصر، هو تراث حى وفاعل لأننا لا نزال نستخدم مفردات ومكونات منه فى حياتنا الآن، الأمر نفسه بالنسبة للعمارة الإسلامية هى ليست عمارة قديمة، وإنما تعتمد على التناسق والمساحات واستغلال الفراغات أكثر من كونها زخرفة» ، تضيف عبد البر: «عبر طريقة العرض حاولنا خلق تجربة أكثر من دلق معلومات»، أو يعتمد «على إثارة الأحاسيس أكثر من الحقائق» حسب تعبير جوليان رابى.


تناول البينالى موضوعين رئيسيين: القبلة، حيث يصلى نحو مليار مسلم حول العالم؛ والهجرة، حيث هاجر الرسول من مكة إلى المدينة. بينما يعتبر الأول أن الطقوس مركزية فى الإسلام، مثل الوضوء والصلاة والتجمع، يستكشف الأخير الحركة، والفقدان، والعكس بالعكس، والتبادل الثقافى. وهو ما أشار له بيان البينالى: «ترتبط هجرات عدة فى عالمنا بالخسارة والنزوح، لكنها يمكن أن تكون أيضاً احتفالات جماعية تعزز الشعور بالانتماء الشامل، جسور بين هنا وفى أى مكان آخر».


وتوضح سمية فالى المديرة الفنية للبينالى: «كانت فكرتى أن يعتمد العرض على خط روائى متصاعد، يبدأ من أساسيات ممارسات كل مسلم ينطلق من الأذان لينتهى بفكرة الأبدية». تضيف: «تطور التسلسل الذى يبدأ بالأذان ويمر بمراحل الممارسات الأساسية للمسلمين التى توحد بينهم مثل الوضوء، والصلاة، وصلاة الجماعة، ومن ثَمّ الأجل، ونهاية الحياة لننتهى بأول بيت وهو الكعبة فى القاعة الأخيرة».


ويبدأ العرض بغرفة خافتة الإضاءة، وينتهى بغرفة ساطعة، فى الغرفة الأولى الصوت هو البطل الرئيسى فيها حيث يعرض عمل «نسمة كونية» الذى يشارك به الفنان جو نعمة، هو أول عمل نلتقى به فى الرحلة، يبحث جو الذاكرة والهوية. يقدم جو تسجيلات لأصوات الآذان من أزمنة مختلفة وبلدان مختلفة أيضا ومن بينها أول آذان مسجل من المسجد الحرام فى أواخر القرن التاسع عشر، فضلا عن أقدم آذان مسجل فى الفلبين، وآذان المسجد الأقصى، وغيرها من أماكن غير متوقعة، هذا التنوع فى الأماكن يضفى تنوعا فى الأصوات، لكل صوت طابعه كما لكل مكان طابعه الخاص. وفى الغرفة الأخيرة الضوء هو البطل.


وبحسب د. جوليان رابى: «طريقة التناول والمحتوى للبينالى مختلفة تماماً عن العروض المتحفية للفن الإسلامى، السؤال الرئيسى للعرض مرتبط بالهوية الإسلامية ومعنى أن تكون مسلماً، ويتناول موضوعات عن الانتماء والحنين ومفهوم الوطن وغيرها، يمكنك رؤية أن المعرض ليس معنياً بوصف الحج، بل يأخذ بعض الشعائر الهامة، فى محاولة لعكس إحساس متسامٍ بالمعنى. الرحلة من الغرفة شبه المظلمة للغرفة الأخيرة البيضاء ساطعة الضوء هى رحلة غنية بالمشاعر». يضيف: التجربة بالنسبة للزوار من المسلمين سيكون لها وقع خاص يمس الروح والمشاعر، لكن العرض أيضاً يخاطب غير المسلمين».


من تجاور المقتنيات الأثرية بالفن الحديث المستلهم من الفن الإسلامى، والذى يطرح أسئلة آنية، لا بد أن نتوقف أمام ما تم عرضه من مقتنيات تاريخية تم استعارتها من مؤسسات أخرى، أو خرجت من مخازنها لتعرض لأول مرة. على امتداد الموقع هناك جناحان ضما مقتنيات أثرية من المسجد الحرام والمسجد النبوى.


من بينها أقدم مخطوطتين قرآنيتين يعود عمرهما للفترة الزمانية ما بين 30 إلى 90 للهجرة، خطت من الرق وبالخط الحجازى المائل وبنوع خاص من الأحبار والمخطوطة الأولى التى تعود من 30 إلى 60 للهجرة تم استعارتها من متحف الفن الإسلامى بالدوحة، والثانية تعود للفترة من 60 إلى 90 للهجرة تم استعارتها من مجموعة الشيخ ناصر آل صباح للأثار الإسلامية..


كما يقدم «بينالى» الفنون الإسلامية 30 صفحة من مخطوطة قرآنية من سورة المائدة وسورة العنكبوت خطت فى عصر العباسى خطت كذلك من رق الغزال وكل مخطوطة بحجم (14.7*21سم) بها أصباغ ذهبية وحبر غير شفاف، تتضمن خمسة أسطر بالخط الكوفى على كل صفحة، وحروف العلة مميزة بنقاط والهمزة بنقاط خضراء والشدة بنقاط زرقاء، وتم تمييز أقسام الآيات ببُريدات ذهبية وميداليات هامشية، واجتزت هذه المخطوطات من نسخة نفيسة وعتيقة من المصحف الشريف، إذْ تعد إحدى المخطوطات القليلة التى كتب فيها النص القرآنى بأكمله بخط كوفى مذهب، ووفقًا لهذا الأسلوب كانت تتم كتابة النص بداية بالغراء ثم ينثر عليه مسحوق الذهب فتتكشف بذلك حروف ذهبية، ثم تُحدَّد حواف الحروف بالحبر البنى لإبرازها.



كما يسلط البينالى الضوء على أقدم الشمعدانات التى صمدت إلى يومنا هذا التى تحمل نقشا يوثق الإهداء للمسجد النبوى الشريف والحجرة النبوية الشريفة.


ويعتبر الشمعدان الذى صنع على يد على بن عمر بن إبراهيم السنفرى الموصلى سنة 717 للهجرة فى الموصل بالعراق أبرزها، وهو شمعدان صنع من النحاس الأصفر المطعم بالذهب والفضة ومادة عضوية سوداء، يبلغ طوله 53 سم، فيما ارتفاعه يبلغ 41 سم، وقد نجا هذا الشمعدان النفيس من التلف أو الفقدان التى قضت على كثير من محتويات الحجرة النبوية الشريفة فى عصور مختلفة، ‏ويعود منشأ هذا الشمعدان فى غالب التقدير إلى مدينة الموصل بالعراق التى اشتهرت بإنتاج النحاس المطعم قبل أكثر من قرن من الزمان.


ويعرض أيضا شمعدانان صنعا للسلطان المملوكى «قايتباى» فى مصر عام 887 للهجرة، وهما من مادة النحاس ومادة عضوية سوداء، يبلغ ارتفاع أحدهما 47 سم وهو مستعار من متحف الفن الإسلامى بالقاهرة، والآخر يبلغ ارتفاعه 46 سم من متحف «بيناكى» أثينا، ويوجد على مقبس كل شمعدان شريط كتابى ينص على أن “الشمعدان مهدى إلى قبر الرسول. وهو أمر تشعر أمامه بالمهابة. ويبقى سؤال الفن دائما وغايته ليس فقط طرح الأسئلة وإنما تقليل الاختلافات والتقارب باعتباره لغة لا تحتاج إلى ترجمة.