«أيام السويس 5» قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل محمد

الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل



محمد الراوى... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد!
بيت الراحة والشيخ القعيد ... (5) 
... بعدما زلزل وجدانه ترديد ما طلبته الفتاة الصغيرة التى تسير وراء أمها وهى تلقى بالبرتقالة تليها الأخرى أمام من استلموا من والدتها الفطائر، والصغيرة تقول فى رثاء أخيها : اقرأوا الفاتحة للشهيد، الفاتحة لاخويا الشهيد، وصاحبنا بعدما سد جوعه – بالمجان – كما كان يحلم فى مساءه ويطلب من ربه، إذا به هو الآخر يردد : الشهيد، الفاتحة (!) وبدهشة عاصية على المكوث فى باطن أساريره، وتنتصر على محاولات كتمها فى أعماقه، حتى تكاد تكون هى المسيطرة عليه – الآن- هو فى بحر الدهشة غارق، لا حول ولا قوة فى الفرار من ترديد لسانه مما يتردد صداه فى وجدانه ويضطرب به عقله، ولم تفلح محاولاته البائسة فى اسكات هذا الصوت الذى يشبه عواصف بحر هائج اقترب من ثورته العارمة، حاول ان يتفلت من كل هذا ويخرج مسرعا من محطة القطار، تلك المحطة التى شهدت سقوطه المخجل فور وطىء قدماه لأرض السويس، وهذه المحطة التى شاهدت استسلامه لذاك الرجل، أول من قابله بالسويس وتظاهر عليه بالعلم والمعرفة عند سؤاله عن المحطة، وهو الذى سلب منه كل ممتلكاته من الأموال الورقية والمعدنية، فى انصياع عجيب منه، خرج من هذه المحطة الأولى له فى السويس هربا إلى محطته التالية التى لم يكن يعلم مقصدها فهو لازال غريب السويس الجديد(!).
ظل يعدو فى خطواته، وكأنه يدرى إلى أين تتجه قدماه، لكنه، ويبدو أنه إعتاد أن يسير خلف قدماه منذ أن نزل بالسويس، أمضى الصباح كله يسير فى شوارع السويس التى يجهلها تماما ويرفض أن يسأل أحدا عن اسم الشارع الذى هو فيه أو يقصده، تاركا لحظه أن يقسم له من السويس نصيبا من الرزق أو الفلاح بالحصول على فرصة عمل، أدار حزمة من الأسئلة ونظم حوارات بليغة بينه وبين أصحاب المصانع والشركات والقرى السياحية والمحلات والمطاعم، بل والمكتبات والأفران، حتى الجراجات لم يسلم أصحابها من سؤلاته، عن الراتب ومحل الإقامة، وبدلات السفر والانتقال، وغالى هو فى تلك الاستفسارات حتى عن الزى المخصص للعمل والملابس التى سيرتديها فى المناسبات، والوجبات التى سيتناولها وقت منتصف اليوم فى راحات العمل، حتى ثقلت رأسه من هذه الحوارات وتلك الاستفسارات التى لم تولد بعد وظلت حمل كاذب فى ظنه وحده، ولم ينطق بها – حتى – لسانه، بل آن أذنيه لم تسمع عنها سوى مجرد اضطرابات هائجة فى داخله، ولم تصادف عينه أيا ممن حاورهم(!) وساهمت شمس السويس الحارقة وطرقها المتسقة مع لهيب شمسها فى تصاعد أبخرة القيظ من بين حبيبات الأسفلت، وبجانب الضجيج الذى نشب فى رأسه كان لهيب الحر فى السويس شريكا فى هزيمة صاحبنا واستسلامه للنوم فى أقرب مكان تقوده قدماه إليه، ومع بحثه المضنى عن مكان يلقى فيه همومه ويرمى فيه بجسده المجهد والذى تعتليه رأس كادت أن تنفجر يأسا وقنوطا، فإذا بنداء الصلاة قادما من وسط الشارع الذى يجهل اسمه كبقية شوارع السويس التى لم يعرفها ولن تعرفه (!)
تدب بعض العافية فى أوصاله وتشتد أمشاجه وتتسارع خطواته نحو المسجد وما أن اقترب منه إلا وكأنه وجد خلاصه ومبتغاه الذى لم يختاره، وارتقى درجات سلم المسجد المهيب ذو المآذن الأربع العالية، وأمام بابى المسجد رفع يده داعيا أن يجد ضالته هنا، وأن يأتيه العمل من هنا، فهو لم يعد قادرا على البحث عنه، ويرفض أن يتسكع فى طرقات تجهله ويجهلها، وما أن خلع نعليه وتأبطهما، ورفض أن يتركهما على أرفف النعال، مغبة أن يفقدهما، فلم يعد محمد الراوى يثق فى شىء، ولم يعد يملك سواهما، وعانى فى البحث عن (الميضة) ولم يشأ ان يسأل أحدا عن مكانها، فلازال أثر سؤاله عن مكان المحطة من الرجل الأول واضحا وجليا فى حاله الرث ويملئ جيوبه بالخواء، ظل يروح ويجىء ويدخل ويخرج، حتى شاهده رجل طاعن يلتحف بلحية بيضاء زمانها – وحدها – شارف على السبعين خريفا أو يزيد كثيرا ناحية الثمانين، وأشار إليه رافعا يمينه يتقدمها سبابة مجعدة العروق ومتقاطعة الشرايين، ناحية باب خشبه عظيم ويفتح على ضوء شمس يخرج الناس منه أطهار تتقطر من أطرافهم قطرات المياة، بعضهم تتخلل تلك القطرات لحاهم، وآخرين ينفضون على جلابيبهم ثنياتها، وغيرهم يدلفون عبر الباب إلى المغسل والمطهر والوضوء، وصاحبنا لا يريد كل هذا، بل هو يريد الراحة التى حرم منها منذ وصوله من شرقيته، وحتى عندما بات بالمحطة بجوار دورة المياة لم يحتاجها بسبب وصول الماء إلى وجهه مباشرة من عامل النظافة الذى اعتاد ايقاظ النائمين بهذه الطريقة الفجائية التى أوصدت باب طلب الراحة – حينها- لكنه الآن لا يحتمل الانتظار، فغلبت على كبرياءه حاجته بسلطانها الذى لا يقهر، وتنازل ليسأل الشيخ الطاعن فهو مطمأن لأمرين الأول لأنه فى بيت الله ولن ينال منه مكروه هنا فى المسجد، وثانيا أن الرجل فى وهنه لايشبه ذاك الذى رأه أمس فى بطشه، واقترب منه بروية وهدهد بيساره على يمين الشيخ -غليظة التجاعيد كما أسفار الزمن المجهدة- عندما بادره بالسلام بيده ليعلن عن نواياه الطيبة واستسلامه واذعانه لأوامر هذ الشيخ، وتلقى الشيخ الرسالة واضحة كما أبرقتها عينا الشاب محمد الراوى، وهز برأسه معلنا عن استعداده للمساعد والإجابة عن استفسارات الشاب الذى تبدو ملامح الغربة واضحة عليه بجلاء، وهمس الشاب – صاحبنا- إلى الشيخ الجالس على كرسيه المزدوج، وسأله عن بيت الراحة، فأشار إليه الشيخ إلى خارج المسجد، ثم إلتفت إشارته لتعنى : ثم الاتجاه يسارا خلف المسجد بعد الخروج منه، وفهم سريعا صاحبنا الإشارات المركبة، وطار مختفيا من أمام الشيخ منطلقا إلى الخارج مندفعا بإلحاح نداء الطبيعة، ثم قصد المنطقة الخلفية ومكث فيها حتى كاد أن يقضى يومه فى بيت الراحة، وبعد أن استفاق واستراح لملم هندامه وخرج من أوزاره إلى المغسل ليتوضأ لكنه وجد الناس قد انهوا صلاتهم وكاد المسجد من أن يفرغ إلا منه ومن الشيخ وقليل من الضيوف الذين يشبهونه، واقترب من أحدهم ليأمه فى صلاة الجماعة (؟) فرد عليه النائم بالمسجد : سيبنى فى حالى، واستشعر صاحبنا اليأس المفرط فى رد هذا النائم المستلقى بالمسجد، فلتفت يمينا ويسارا يبحث عن إمام له، وما أن دارت عينه دورة كادت أن تكتمل عائدة خالية الوفاض، حتى أشار له الشيخ الطاعن مرة أخرى، فهم صاحبنا عن تلك الاشارة أن يأتيه ليصلى خلفه، وارتضى من حينها أن يسلم لهذا الشيخ أمره، وبعد أن أنهى الفرض، أمره الشيخ بحزم أن يتركع بالسنن، فسأل الشاب عن كيفيتها من الشيخ، وهنا علم عنه الشيخ الكثير مما يحتاجه هذا الشيخ من ذاك الشاب، فأشار إليه بفتوى تريحه من قضاء ركعات السنة، مادام عابر سبيل، وليس مقيم، فرح الشاب بتلك الفتوى التى أراحته وأزالت عنه عناء العبادة، انفرجت اساريره وبانت نواجزه فرحا بالشيخ، أخيرا وجد من يعطف عليه، ويفتيه بالراحة التى ينشدها، وما أن انتهى من تلك الحوارات مع ذاته، حتى فاجئه الشيخ، بعد أوراق من فئة الخمسين والمائة جنيها، حتى أكملها خمسمائة جنيها، ودسها فى يد الشاب الذى أسقط فى يده، وبذهول دال على غياب العقل، هز رأسه متسائلا : ما هذا؟!، ولماذا؟! وعينه ترجوا من الشيخ ألا ينكر عليه العطاء، ولا تعود يد الشيخ بهما ثانية، وأن يتركها هادئة فى يده كما هى الخمسمائة جنيها، وكل شىء سيكون على ما يرام، فطن الشيخ سريعا إلى كل هذا الضجيج من الرجاء والتوسلات المبرقة من عين صاحبنا المستسلمة، وربت على كتف الشاب ليريحه، وقال بهدوء: خد دول وكل يوم زيهم لحد ما أشوف ح أعمل بك أيه؟!.          
فى القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف أصبح تابعا للشيخ القعيد، ولماذا قبع فى مسجد حمزة، وكيف استخدمه الشيخ.