«طريق».. قصة قصيرة للكاتب كرم الصباغ

الكاتب كرم الصباغ
الكاتب كرم الصباغ

الصباح لا يزال باكرا، والشمس يحجبها الغيم.. أبصر  السماء رمادية معبأة بالمزن الداكنة.. الهواء البارد يضرب صفحة وجهى، فيرتعد جسدي النحيل.. الأرض أمامي زلقة؛ فالأمطار لم تتوقف عن الهطول طوال الليل، و الطقس المتقلب ينبئ بمطر وشيك.

أسير في  الطريق الترابي الموحل الواصل  بين النجع، و الطريق  العمومي  المرصوف  بطبقة الأسفلت.  أجد نفسي وحيدا؛ فلا أثر لأي من صبيان النجع أو بناته أمامي أو خلفي. لقد  باعني الجميع اليوم، وانكمشوا داخل الدور بجوار (بوابير) الجاز، والكوانين التي تغذيها الأمهات من وقت إلى آخر  بالحطب؛  فتنشر الدفء، وتغري الصغار، وربما الكبار بالبقاء، وعدم الخروج في مثل هذا اليوم المطير.

أحمل فوق ظهري حقيبة سوداء ثقيلة، أستدفئ بقطعتين من الملابس الصوفية، فوقهما  مريلة صفراء من التيل. أدخل رجلي بنطالي بإحكام في رقبتي " الطالونة"، ذلك الحذاء البلاستيكي الطويل، المبطن بالوبر؛  حتى لا يطال بنطالي شيء من الوحل، أو الماء.

أتلفت حولي، وأستدير للوراء؛ فيساورني الخوف والقلق، وأهم بالعودة إلى الدار، ولكنني أخجل من الظهور  بمظهر  الجبان بعد كل ما أبدتيه من العناد والتجاسر، أثناء مجادلة الصباح الحامية. أقرر  مواصلة السير رغم ما بي من رعب، ألتقط حجرا غائصا في الأرض الموحلة، أمسح  الطين العالق به، أمرره عدة مرات فوق العشب المبتل  النامي على حافة الطريق؛ أتشجع؛ فقد  قبضت للتو على سلاح، ربما يدفع عني الكلاب الشرسة، التي عادة ما  تكمن صباحا داخل أحراش  "البوص"، و"الحلفا"،  و"البرنوف"  تلك النباتات البرية التي تمتد على الجانبين.   

أمضي في طريقي، أقطع ثلاثة كيلومترات كاملة ذهابا، وأقطع مثلها إيابا، والعذاب كل العذاب يبدأ مع حلول الشتاء؛ فالأرض تمسي كالعجين، والكلاب تزمجر، ولا فرصة للهروب، أو الركض؛ إذ يعيق الطين الهاربين، ولا يترك أمامهم حلا سوى الصمود، وإخفاء رائحة خوفهم، التي تشمها الكلاب جيدا؛ فتهتاج.

الصغار عادة ما ينتهزون  فرصة تقلب الجو للتغيب عن المدرسة، والأمهات قلوبهن مرهفة يؤثرن سلامة أولادهن قبل أي شيء. لم تكن أمي تختلف عن هؤلاء الأمهات في شيء؛ لقد ظلت نصف ساعة كاملة تقنعني بعدم الخروج، وعندما صممت على الذهاب إلى المدرسة، عرضت علي أن ترافقني في الطريق، لكنني اعترضت بشدة؛ ففي ذلك اعتراف ضمني مني بأنني لم أصبح رجلا بعد، ذلك الاعتراف الذي سيعرضني- لا محالة- لسخرية صبيان النجع أجمعين.

لك سبعة ألسنة تجادل بها نجعا بأسره، لا يفلح معك لين أو شدة. أنت  عنيد مثل أبيك، اخرج، وليكن ما يكون.  دائما ما تستنفد أمي الحيل لإقناعي بالبقاء؛  فتنهي جدال الصباح بتلك العبارات اليائسة.

هي تعلم أنني  أعشق المدرسة، و أجد فيها  لذتي و ملاذي.  تعلم مدى حبي للأستاذ "عثمان" مدرس اللغة العربية، الذي طالما كتب لي بخط يده كلمة الصباح على صفحة كاملة أو صفحتين من ورق "الفولسكاب"، و الذي  يقف بجواري دائما؛ ليثبت فؤادي، و يدركني إذا ما أخطأت أو تلعثمت، أثناء ألقائي  الكلمة على مسامع تلاميذ المدرسة، الذين غالبا ما  ترسم أجسادهم، و مرايلهم لوحة، تبهر الناظرين إلى  طابور الصباح.  طالما أخبرتها بأننا نلعب المباريات بحماس ورجولة؛ حتى ننال كلمات الثناء من الأستاذ "سيد" مدرس الألعاب.

كما  أخبرها كذلك بأن هيبة الأستاذ "مفتاح" ناظر المدرسة، لم تمنعني قط من دخول مكتبه  للحصول على حصة فصلنا من أصابع الطباشير الجيرية البيضاء، وبأنني أرى خلف عصبيته المفرطة، وصوته الجهوري الزاعق طيبة، لم يلحظها الآخرون.  كم تغنيت أمامها بالأبلة "أماني" مدرسة الرسم! فهي تخرج دائما من حقيبتها حلوى بنكهة النعناع، وتوزعها على كل جميع التلاميذ، حتى هؤلاء، الذين لم يجيدوا يوما رسم موضوعات الربيع، والشتاء، وحصاد البرتقال، وعرائس المولد، وأحصنته، وما على ظهورها من الفرسان؛ فالأبلة " أماني" لا تحرمهم من حلواها، وابتسامتها. أخبر أمي      بأنني سأظل ممتنا ما حييت للأستاذ "عيد سيف النصر"، الذي أهداني أول كتاب قرأته في حياتي، كتاب" البخلاء" للجاحظ. أقول لها:  لك أن  تصدقي أن الأستاذ "عيدا" مدرس للعلوم، وهو  في  الوقت ذاته  شاعر، نلتف حوله، أثناء الفسحة؛ فنراه  يحلق بعيدا، نراه يجاوز السحاب بجناحيه، ثم يعود إلى الأرض  بمجرد أن ينتهي من إلقاء  قصيدة من قصائده، التي يتغزل فيها عادة في حبيبه، لم تعد مجهولة بالنسبة لنا بعد زواجه منذ  عدة شهور من  الأبلة "سحر"، معلمة الدراسات الاجتماعية  الحسناء.

أمضي في الطريق مرتعبا، أتلفت ذات اليمين، وذات اليسار؛ أبصر الكلاب منكمشة غافية، كأنها رقت لحالي في هذا الزمهرير. أصل بعد  مسيرة كيلو متر واحد إلى الطريق العمومي؛ وما إن أرى الأسفلت، حتى أتنفس الصعداء، وأسير مبتهجا بعد أن  أمنت شر الكلاب، وتخلصت من كدر الخوض في الوحل.  أتلهى بترديد ما أحفظه من أناشيد وأغنيات.  أرى من بعيد حفنة من التلاميذ، أتوا من نجوع مجاورة، و تظهر المدرسة على مرمى البصر؛ فيخفق قلبي طربا، وأجد في السير؛ فيفاجئني  المزن  برذاذه  الخفيف، يتساقط فوق رأسي، أبصر العصافير  تحط على الأشجار المنتشرة على جانبي الطريق، تهز رءوسها، وتحرك أجنحتها، وتنفض ما علق بها من  ماء، ثم تعاود التحليق. أهز رأسي مبتهجا، أفتح ذراعي، أضرب بهما الهواء، أركض بأقصى سرعة، لا تكاد قدماي  تلامسان الأرض، أتحول إلى  عصفور، أوشك أن يطير.