حادث غامض فى جنة الجواسيس

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

..على ضفاف بحيرة "ماجورى" الإيطالية يمكن أن ينفصل الإنسان عن العالم ومشكلاته وصراعاته السياسية والاقتصادية بسبب طبيعتها الساحرة، لن تجد هناك إلا أثرياء ومشاهير العالم يقضون عطلاتهم  فى فنادقها الفاخرة أو يسكنون الفيلات والقصور التى تحيط شواطئها، صباحا يبحر الجميع بالقوارب فى مياه البحيرة الهادئة ومساءً لاينقطع صخب الموسيقى والحفلات.

لا مانع أن يقتنص بعض متوسطى الحال أيامًا سياحية قليلة فى هذه الجنة الرائعة ..لكن حادثًا غامضًا وقع لقارب فى مياه البحيرة أزاح قناع السحر والروعة عن عالم بحيرة "ماجورى" وكشف أنها مجرد جنة زائفة بل هى وكر للجواسيس والمكان المفضل لأجهزة الاستخبارات من أجل اللقاء وعقد الصفقات بل كل مؤامرات وصراعات وجنون العالم ما هم إلا ضيوف دائمين على شواطئ  بحيرة ماجورى. 

قبل ساعات من الحادث الغامض لغرق القارب كانت هناك مجموعة سياحية لا تقل عن 20 فردًا بين رجال ونساء يتناولون غداءهم فى أحد المطاعم الشهيرة على ضفاف البحيرة ، يرتدون الملابس الرياضية وتتجاوزأعمار معظمهم الخمسين عامًا ويتحدثون الإيطالية وتتعالى ضحكاتهم على طريقة بلدهم الصاخبة.

 أوحت هذه المشاهدالمتتابعة للعاملين فى المطعم  أنهم أمام مجموعة من الموظفين الطليان من الطبقة الوسطى قرروا اقتناص أيام قليلة فى جنة الأثرياء على شاطئ ماجورى بعد أن بذلوا جهدًا كبيرًا طوال العام وأدخروا بعض الأموال ثم قرروا قضاء أيام فى الجنة مع زوجاتهم أو أن بعضهم حصل على مكافأة التقاعد واختار إنفاق جزء منها على هذه الشواطئ ليعوض سنين من العمل المضنى.

أغلب العاملين فى المكان كانوا يعلمون طبيعة جدول اليوم السياحى لهذه المجموعات فبعد الغداء سينطلقون فى رحلة بالقارب تجوب بهم البحيرة الساحرة وقد يهبطون على بعض جذرها المتناثرة لأجل مشاهدة معالمها القديمة والخلابة.

بالفعل لم تمر دقائق على انتهاء الغداء حتى وصل قبطان القارب السياحى يطلب من المجموعة الاستعداد لاستقلال القارب، أكثر ما أدهش العاملين فى المطعم ظهور هذا القبطان أو "كلاوديو كارميناتى "لاصطحاب هذه المجموعة فكارميناتى رجل غريب عن هذه المنطقة التى تتوارث فيها العائلات العمل فى السياحة ولم يظهر هذا القبطان الغامض سوى من شهور ليمارس عمله بعد أن حصل على تصريح فى سهولة شديدة بإنشاء شركة لعمل جولات سياحية فى البحيرة.

لكن الأكثر غموضًا بالنسبة للعاملين فى الخدمات السياحية على شاطئ البحيرة كانت زوجة القبطان كارميناتى أو الروسية "انا بوزكوفا " فرغم التشديدات الأمنية فى إيطاليا وأوروبا بصفة عامة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية حول حركة المواطنين الروس إلا أن "بوزكوفا" كانت تمتلك تصريح إقامة مفتوح فى إيطاليا وتتحرك بحرية وفى بعض الأحيان تختفى لأيام ثم تظهر من جديد حيث تقيم مع زوجها فى القارب نفسه، فالقارب لكارميناتى وبوزكوفا كان منزلهما وهو راسى على الشاطئ ومكان عملهما عندما يتحرك فوق  مياه البحيرة.

يتذكر بعد ذلك كل من رأى هذه المجموعة السياحية أثناء جولاتها فى منطقة ماجورى أوهى فى طريقها مع القبطان كارميناتى وزوجته الروسية لركوب القارب وبدء الجولة فى مياه البحيرة أن هؤلاء الناس كأنهم يمثلون دور سائحين فرغم ملابسهم الرياضية  وتصرفاتهم  المرحة وتبادل الضحكات مع بعضهم البعض ومع الآخرين إلا أن عند تحركهم فى الجولات وعند الذهاب للقارب يحكمهم انضباط شديد ولا يشعر بهم أحد عند مغادرتهم المكان الذى تواجدوا به كأنهم أشباح دخلت وخرجت ولم يبق منها سوى أصوات بعض الضحكات. 

رغم وجود العديد من الجزر الرئيسية والشهيرة فى بحيرة ماجورى لما تمتاز به من مشاهد خلابة ومعالم مميزة إلا أن المجموعة السياحية الغامضة قررت الذ هاب إلى جزيرة صغيرة اسمها " دى بيسكاتورى " أو كما يطلق عليها جزيرة الصيادين وهى لا يوجد بها شيء مميز وهادئة تمامًا لقلة عدد سكانها الذى يعمل أغلبهم فى حرفة الصيد. 

لم يمر وقت طويل على خروج القارب إلى مياه البحيرة حتى بدأت الأخبار تتوالى عن تعرض أحد القوارب لحادث غرق، تحركت وحدات الإنقاذ للبحث عن القارب وإنقاذ الركاب وعثروا على قارب القبطان كارميناتى غارقًا فى مياه البحيرة وبه أربع جثث زوجة القبطان الروسية انا بوزكوفا وثلاثة من الركاب الآخرين رجلين وسيدة ومعهم القبطان يصارع مياه البحيرة فى محاولة أخيرة للنجاة.

أنقذت الوحدات عددًا من الركاب وأوصلتهم إلى الشاطئ و توجهوا بالبعض إلى المستشفى أما بقية الركاب الـ23 فقد اختفوا ولم تمر ساعة حتى هرب الركاب الناجون من الشاطئ والمستشفى ولم يظهر لهم أثرًا ولم يكن معروفًا إلا هوية جثة زوجة القبطان أما الجثث الثلاث فكانت مجهولة ولاتوجد أى معلومات عن طبيعة عملهم أو أين يقيمون وهو ماجعل أجهزة الشرطة مندهشة من كل هذا الغموض فالناجون هربوا كأنهم مجرمين والمتوفين مجهولين. 

كان يمكن للتحقيقات بعد فترة كشف حقيقة هؤلاء الغامضين لكن ماحدث بعدها هو الأكثر غموضًا ففى خلال ساعات قليلة تسربت للصحافة الإيطالية حقيقة هذه المجموعة السياحية الغامضة فهم 13 ضابط مخابرات من " AISI" أو الاستخبارات الإيطالية و8 ضباط من الموساد الإسرائيلى ولم يكتف التسريب بالعدد بل وصلت للصحافة اسماء المتوفين الثلاث وهم   تيزيانا بارنوبى 53 عامًا ،كلاودو ألونزى، 62 عامًا، العميلان في المخابرات الإيطالية، و سيمونى إيريز50 عامًا وهو عميل للموساد.

أمام هذه المعلومات التى ظهرت فجأة على صفحات الصحف الإيطالية وقبل جهات التحقيقات كانت حكومتي روما وتل أبيب تحاولان بأى شكل التغطية على هذا الحادث غير المسبوق على الأقل غير المسبوق فى اجتماع عملاء أجهزة مخابرات بهذا العدد فى مكان وقارب واحد وغرقوا فى بحيرة . 

فى البداية حاولت تل أبيب نفى حقيقة وجود عملاء للموساد على متن القارب الغارق لكن تسريب اسم الضابط بالكامل وعمره جعل مكتب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يقر بأن سيمونى إيريز بالفعل عميل للموساد ولكنه عميل سابق ولا يمكن الكشف عما أداه من مهام وأعمال فى الماضى  لأنها من أسرار الدولة ، أكد ماقاله مكتب نتنياهو صحة المعلومات التى وصلت للصحافة الإيطالية وأن من كان وراء المعلومات يعلم جيدًا حقيقة من كانوا على القارب وماذا يفعلون. 

خرجت دوائر رسمية فى العاصمة الإيطالية روما برواية عجيبة عن سبب هذا الاجتماع المخابراتى الحاشد بين " AISI" والموساد أن سبب لقاء كل هذه المجموعة من ضباط المخابرات فى ماجورى واجتماعهم فى قارب القبطان كارمنياتى كان من أجل الاحتفال بعيد ميلاد ضابط مخابرات إيطالى من زملائهم وانضم لهم زملاء سابقون من الموساد الإسرائيلى ! علقت العديد من الصحف الإيطالية على رواية روما بأنها تستحق جائزة الأكثر كوميدية لهذا العام. 

بالتأكيد لم تعلق المخابرات الإيطالية ومديرها جيوفانى كارافيلى على هذا الحادث الغامض لكن من تحدث بشكل رسمى كان كارلو نوتشيرينو المدعى العام كجهة تحقيق ولم يقل الرجل أكثر من أن كل من كان على القارب لم يعودوا موجودين إما بالفرار أو الوفاة ولا يعلم أحد هويتهم لأنه لم يتم استجواب الناجين لكن الوحيد الذى يتم استجوابه هو قبطان القارب كلاوديو كارميناتى لأن هناك شبهة فى إغراق القارب عمدًا لأن الطقس العاصف الذى تحدث عنه القبطان وأدى لغرق القارب فى وسط البحيرة لم تؤكده أجهزة رصد الطقس.

من الواضح أن هذا كل ماتمتلكه أجهزة التحقيق عن القارب الغامض وركابه ومن ناحية أخرى لن تتحدث المخابرات الإيطالية والموساد عن حقيقة ماحدث لعملائها لكن المعلومات حول ملابسات الحادث الغامض لم يتوقف تسريبها وظهورها أمام الصحافة الإيطالية وفى نفس الوقت تحولت شواطئ ماجورى إلى قبلة للصحفيين والمراسلين من كافة وسائل الإعلام الدولية لكشف تفاصيل الحادث الغامض والإجابة عن سؤال ماذا كان يفعل 21 ضابط مخابرات فى جنة بحيرة ماجورى الساحرة؟

ماقدمه العمل الصحفى الدؤوب ومايتم تسريبه من معلومات بدأ يحول عالم ماجورى الساحر إلى جنة الجواسيس فعلى شواطئ ماجورى يتحرك عملاء من كافة اجهزة استخبارات العالم ولكن أغلب المعلومات خاصة المسربة إشارات إلى المخابرات الروسية لأن هناك حركة غير عادية لعدد كبير من "رجال أعمال " روس ظهروا فجأة فى مجتمع ماجورى قبل شهور قادمين من سويسرا التى تطل أيضا على البحيرة  بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وقاموا بعمليات شراء وتجديد فنادق وعقارات بملايين اليوروهات ولكن كثيرًا منهم كما ظهروا فجأة اختفوا بنفس الطريقة وتركوا وراءهم هذه الاستثمارات المليونية دون متابعة وأن هناك وجوهًا شرق أوسطية أو آسيوية ظهرت فى نفس الفترة لكنها هى الأخرى اختفت بالتزامن مع الحادث الغامض. 

من الواضح أن جهات أخرى لم تفضل توجيه دفة القصة إلى الروس فبدأت تظهر معلومات عن حقيقة الحفلات التى كانت تقام فى فيلات وقصور ماجورى وعدد كبير منها يمتلكها أثرياء يهود من أصول إيطالية وأن هذه الحفلات كانت تخفى وراءها لقاءات شارك فيها كثير من السياسيين الأمريكيين وعملاء الـ CIA وأطراف أوروبية وإسرائيلية من أجل التخطيط وعقد صفقات معينة وأن هذه المجموعة المخابراتية كانت مهمتها التحضير لاجتماع قادم على درجة عالية من الأهمية والخطورة. 

بدأت تخرج من تل أبيب رواية ثالثة حتى تشبع الفضول الصحفى وتغلق ملف الحادث الغامض وأيضا تكون أكثر إقناعًا بدلا من قصة حفلة عيد الميلاد الساذجة التى أطلقتها روما وهى أن المجموعة المخابراتية الإيطالية ــ الإسرائيلية المشتركة كانت تراقب عددًا من رجال الأعمال الروس فى لقاءاتهم مع عملاء إيرانيين من أجل عقد صفقات لجلب المسيرات الإيرانية الى روسيا لاستخدامها فى الحرب الروسية الأوكرانية !.

بالتأكيد الحقيقة الكاملة حول هذا الحادث لم ولن تظهر وستظل عشرات الأسئلة معلقة وأبسطها هل كان بالفعل غرق القارب نتيجة للعاصفة التى لم يلاحظها أحد؟ أم غرق نتيجة حرب استخباراتية شرسة دارت معاركها على شواطئ الجنة الساحرة؟ الأمر الغالب أن الحقيقة غرقت مع قارب القبطان كلاوديو كارميناتى فى قاع بحيرة ماجورى.


 

;