أتوموبيل الفن .. كاديلاك حليم تستدعى عبد الوهاب لبروفة «فاتت جنبنا »

مدحت عبد الدايم
مدحت عبد الدايم

"فاتت جنبنا" هرع على إثرها إلى المستشفى، وعاد محموًل على كرسى متحرك مع التوصية الطبية بعدم الحركة، ولإصراره على استكمال البروفات نصحه الأطباء بضرورة وضع وسادة أسفل القدم وفرد الساق على المقعد المتحرك، ووفقًا لتعبير الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى حضر إلى بيت العندليب فور علمه بعودته للاطمئنان على حالته الصحية: "كانت الجلطة بسمانة الساق وتستدعى الراحة والامتثال لتعليمات الأطباء، لكن عبد الحليم كان مغامرًا بصحته إلى حد كبير، فهو لا يقدم شيئًا على فنه" وكان الموسيقار يتابع بنفسه البروفات الأولية ثم عهد إلى العندليب بمهمة تحفيظ اللحن للفرقة الموسيقية، وحينما أراد العندليب تغيير إيقاع الأغنية فى المقطع الذى يقول "وابتديت اسمع فى قلبى لحن حب جديد عليا" قرر استدعاء الموسيقار ليبدى رأيه حول ذلك التعديل، وبسرعة البرق توجه السائق عبد الفتاح من أمام عمارة زهراء الجزيرة التى يقطنها العندليب، إلى شارع الفردوس بمنطقة الزمالك حيث يعيش عبد الوهاب، مستعينًا بسيارة العندليب "الكاديلاك" المكشوفة أمريكية الصنع موديل 1974 والتى كثيرًا ما كان العندليب يقودها بنفسه، بمظهرها الأنيق وهيكلها الفاره ولونها الداكن المثير. بيت العندليب فى مثل هذه الأوقات محل توافد أعضاء الفرقة الماسية، ومجموعات الكورس، ونخبة من الأطباء والصحفيين والمصورين، والشاعرين حسين السيد ومحمد حمزة، والملحن بليغ حمدى، ذلك أن العندليب يقوم بإجراء بروفاته على أغنيتى "فاتت جنبنا" و"أى دمعة حزن لا" ليقدمهما معًا فى حفله السنوى الذى يقام بمناسبة أعياد الربيع، وينصت الأستاذ عبد الوهاب إلى التعديل الموسيقى الحليمى، فيقول: "طبعًا طبعًا.. أحلى كتير" ولم يكن هذا التعديل غريبًا على الموسيقار، فمنذ البروفات الأولية على اللحن وحليم يقدم أفكاره ويعرضها بأدب جم على أستاذه، الذى يعلم تمام العلم أن العمل الفنى فى جوهره مشاركة فى عملية الخلق الفنى، الذى تتطلبه هذه النوعية من الأعمال التى سيكتب لها الخلود، ومن مجموع تلك البروفات يتضح بجلاء احترام الأستاذ لآراء تلميذه الموسيقية، فنراه يوافقه على كثير من مقترحاته، من ذلك على سبيل المثال: رضاه عن اقتراح استخدام "الجيتار" قبل إعادة "مرة تانية برضه صدفة" مع الغناء المتقطع للكلمات عند إعادتها، ورضاه عن أداء حليم لجملة ا للحن الأصلى، ومن ً "فرحان عايز أضحك، مهموم عايز أبكي" خلاف ثم تغييرها إلى ما ظهرت عليه فى اللحن، ذلك أنه يرى أن دراسة حليم الموسيقية، وثقافته الفنية الواسعة، وخبراته وذوقه، عوامل تؤهله لتلك المكانة التى اكتسبها لديه، فكان يخصه بعرض ألحانه لنفسه أو لغيره عليه، للوقوف على رأيه قبل إذاعتها، وذلك منذ منتصف الستينات. كوَّن عبد الوهاب ) 13 مارس - 1898 4 مايو 1991 ( مع الشاعر حسين السيد ) 15 مارس - 1916 27 مارس 1983 ( ثنائًيا لافتًا، منذ أن التقيا فى أغنية "أجرى أجري" بفيلم "يوم سعيد" 1939 ، فتغنى بأكثر من خمسين أغنية من تأليفه، بخلاف عشرات الأعمال التى لحنها من كلماته لكثير من المطربين، وكانت "فاتت جنبنا" واحدة من أهم ما قدمه المبدعان، غير أنها كانت اللقاء رقم 23 والأخير بين حليم وصاحب القلم الرقيق، وترجع قصة تأليف الأغنية إلى منتصف عام 1965 ، حين طالبه عبد الوهاب بكتابة قصة غنائية على غرار رائعته لنجاة "ساكن قصادي" 1963 ، والتى تعتمد على حبكة درامية مكتملة الأركان، وكان قد سبق إلى مضمار تأليف هذا اللون الغنائى عام 1956 من خلال رائعة نجاح سلام "عايز جواباتك" تلحين رياض السنباطى، وفى جريدة الأهرام 23 ديسمبر 1965 يطالعنا العندليب بأن عبد الوهاب يلحن له أغنية جديدة اسمها "فاتت جنبنا" وذكر مطلعها كاملً، أما عبد الوهاب فيقول أنه طالب الشاعر بتعديل نهاية الأغنية مرات عديدة، فلما جادت قريحته بقوله: "وقالت لى أنا من الأول بضحك لك يا اسمراني" خطر حليم على بال الموسيقار، وبدأت الحكاية. حملت الأغنية رقم 27 فى مسيرة التعاون الفنى بين حليم والموسيقار من بين ثلاثين عملً غنائيًا، حيث دشنت أغنية "توبة" لحسين السيد لقائهما الأول، فيما كانت أغنية "من غير ليه" لمرسى جميل عزيز اللقاء رقم 30 والأخير ولم تر النور إلا من خلال بروفة صوتية، واستغرق العمل فى الأغنية نحو تسع سنوات، وحال مرض حليم وأسفاره وانشغاله بأعمال سينمائية، وأحداث النكسة دون ظهور الأغنية، وعادت فكرتها تشغل ذهن العندليب فى عام 1973 فالتقى شاعرها وطلب بعض التعديلات الطفيفة، وعكف عبد الوهاب على عوده مترنمًا بفاتت جنبنا، وأعلنت الصحف عن موعد الحفل فى مايو 1974 . جاءت الإصابة بالجلطة لتحول دون إتمام اللحن، فيما تسببت وفاة الموسيقار "على إسماعيل" فى 16 يونيو فى استمرار تأجيل ظهور الأغنية، وعلى الرغم من منع حليم عن الحركة، إلا أنه طالب كمال الطويل بسرعة الحضور، وهم بمغادرة المنزل حافى القدمين من شدة الصدمة، وظل يردد: "على مات يا كمال.. جزء من المزيكا مات" قبل أن يدخل فى نوبة بكاء عنيفة تسببت فى انهياره وتدنى حالته النفسية، فقد كان على إسماعيل رفيق دراسته بقسم الآلات بمعهد فؤاد الأول للموسيقى، وتخرجا فيه معًا بدفعة عام 1948 ، ولحن له 14 أغنية، ووزع نحو 50 لحنًا وطنًيا وعاطفًيا، ووضع الموسيقى التصويرية لأفلام: "البنات والصيف، يوم من عمرى، الخطايا، معبودة الجماهير، أبى فوق الشجرة". قدم موسيقار الأجيال لحليم المولود فى 21 يونيو 1929 لحن "فاتت جنبنا" هدية رمزية بمناسبة يوم ميلاده الذى لا يحتفى به، وفى 30 يونيو 1974 ومن قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، تلقفت الجماهير درة ألحان عبد الوهاب، وخلاصة رحيق النغم الشرقى الأصيل، فمن مقام "العجم" استطاع أن يرسم صورة متكاملة للقصة وتداعياتها، فيما أضفت تحولات اللحن زخمًا كبيرًا وثراءً نادرًا إلى العمل بتنويعاته على مقامات "الحجاز والنهاوند والبياتى والرست والصبا"، وسكب أداء حليم المعبر عطره على ا، ولم يفته بإدراكه لجماليات ً اللحن، رقة وإحساسًا وذكاءً وشجن اللحن المتفرد أن يمنح الموسيقار بعض حقه عليه، فشرع يخاطب جماهير الحفل بالمسرح وعبر أثيرى الإذاعة والتليفزيون، قائلً: "أنا النهارده كان نفسى أقول فيه كلام كتير، راجل حمل على أكتافه عبء الموسيقى العربية طول عمره، فى الواقع مش لاقى كلام أقدر أوصفه بيه، أستاذى الأستاذ محمد عبد الوهاب، ح اغنى اللحن بتاعه "فاتت جنبنا" اللى كتب كلماته الشاعر الرقيق الأستاذ حسين السيد".. رحلت الأجساد وبقى الفن شاهدًا على عصر من الإبداع والألق الذى لا يخبو ولا يغيب.