«المتشبث بالأمل» قصة قصيرة للكاتب إبراهيم الديب

 قصة قصيرة للكاتب إبراهيم الديب
قصة قصيرة للكاتب إبراهيم الديب

 

تخطى الخمسين عاما بقليل، رجل قوي البنيان فارع الطول والعرض لم يشتك يوما من مرض يقعده عن الحركة، أو يتمكن من إعاقته يوما، يمارس حياته بصورة جيدة، إلا بعض أعراض من برد أو إنفلونزا الموسمية التي يعرفها الجميع لا يعبأ بها.

شبه معربد ومخرب لقوته وصحته بسبب أسلوب طعامه وشرابه، يتناول كل شيء بشكل بوهيمي يعيش لحظته يعتقد واهما أن الحياة معه على وئام تام في قابل الأيام, كما كانت معه فى الماضي، وأنه عقد بينه وببن صحته صلحا دائما أن تظل كما عهدها في فترة شبابه النضر, وأن لا تخصم من قوته شيئاً نتيجة أخطائه المتكررة, في ممارسة تناوله الطعام.

ولكن الحياة لا تؤتمن, والصحة لا عهد لها ولا ميثاق, والمرض الذي ضربه بداء السكر يلهو بالجميع غير عابئ بأي شيء إلا الفتك بالجسد الذي يسكنه، فهو يعمل ليل نهار وكأنه فلاح نشط يزرع حقله بإخلاص وتفان ويتنظر يوم حصاده، فتح السكر الباب لعدة أمراض  بجسد الرجل الذي أصبح أرضا خصبة لاستقبال الكثير منها، وكان ضغط الدم هو ما حل بجسده بعد السكر مباشرةً.

كان حصاد السكر ضعف بصر صاحبنا وشيئا فشيئاً اقترب من؛ العمى إلا بصيصا من نور يمكنه بعد استناده على عصا يتوكأ عليها وليس له فيها مآرب أخرى، أصبح يقطع مسافة الطريق القصير الذي يفصل؛ بين بيته والمقهى في فترة طويلة من الوقت وبشق الأنفس وبمساعدة كل؛ من يمر ذهاباً وإياباً، بعد أن كان يطوي هذا الطريق تحت قدميه في عدة دقائق... أصبحت الرؤية أكثر ضعفاً، بعد أن أصيبت عينه الشمال بجلطة قبل أن يغلق السكر اليمني تماماً، ولكنه ما يزال يعيش على؛ أمل من أحد الأطباء أن عينه اليسرى التي ترى طشاشا لها جراحة، واحتمال نجاح العملية ليس معدوما.

أصبح حزيناً لا تراه في أي وقت من الأوقات، إلا وتعتقد أنه فقد عزيزا لديه، تقرأ على ملامح وجهه ألما دفينا، يكفي سكان مدينة خربها غاز معتد، دون جريرة. كان يسأل من  بجواره على المقهى؟ عن مباراة كرة القدم المقامة, وكيف أحرز المهاجم الهدف, ومن قام بصنع الهجمة وأرسلها للمهاجم, قبل أن يرسلها للشباك، فهو متشبث بالواقع لا يريد أن يعترف أنه مريض, هذا أمر عارض من وجهة نظره الأكيدة, وسرعان ما يزول العرض، يرفض حتى على مستوى الشعور الذهني أن يغيب عن الحياة لحظة حتي لا يترجم عقله هذا الإحساس, ويصبح أسلوب حياة، كان بعض الجلوس يجيب، ليس في كل الأوقات متأففا، والغالبية ترفض الإجابة لكثرة اسئلته، فهو من الأشخاص الذين تكون الصورة عقولهم، وتشكل وجدانهم، وهناك من كان يسخر منه ويجعله مادة لملء الفراغ، فيخبره بالخطأ، أما ما كان يغضبه ويجعله في حالة تحسر على نفسه .

 كان يسأل من يجلس بجواره على المقهى عن رقم الأوراق النقدية إذا أراد أن يشتري شيئا أو يحاسب القهوجي ثم يجيبه من يستخف به، ولا ضمير له عن المائة عشرين جنيه والعشرة يخبره أنها الخمسين.

ولكن لا بأس ففد اقترب من توفير المبلغ الكبير الذي طلبه منه الطبيب تكلفة جراحة عينه اليسرى, كان يغوص بداخل نفسه يعيش تحت فكرة عودة نور عينيه وأنه سيعود يطوي الأرض تحت قدميه, ذهاباً وجيئة كما كان يفعل في السابق, كان يرد بذلك على من يسخر منه بلهجة لا تنقصها الثقة، لم تكن في لهجته أدني شك، واحد في المائة أنه سيرى مرة أخرى، يصمت متخيلا: ما يدور حوله  وينتج ذهنه كل ذلك بالصورة التي ترضيه عوضاً عن سؤال اللئيم كما كان يصف من يرفض الجواب..

ذهب لإجراء الجراحة في عينه فشلت العملية لم يعد يرى مطلقاً، غاب فترة طويلة في بيته لم يره أحد بعد أن أصبح جسده مرتعا للأمراض بسبب حالته النفسية ولكنه عاد أخيرا للمقهى بعد أن أوصله أحد الجيران بطلب منه، بعد أن غزت ملامح وجهه بعض من سعادة خافتة مستترة، ولكنها لا تخفى على من له قدرة على قراءة الوجوه، ثم قام تحت هذا الشعور بقص خبر جديد يلبس ثوب البشرى على الجميع أنه سمع من مصادر موثوق منها أن حالة عينه اليسرى ما زالت  تصلح أن يجري بها جراحة جديدة مع تقدم طرق طب وجراحة العيون أخيرا، وأنه يستطيع أن يرى بها بصيصا من النور يمكنه  في المستقبل من قطع الطريق وحده بين المقهى والبيت, كما أخبره الطبيب، وأنه بدأ بتوفير جزء من تكلفة العملية باهظة الثمن...