صورة مريم: أركيولوجيا الذاكرة بين مرايا الواقع والمتخيل

رواية صورة مريم
رواية صورة مريم

أيمن رجب طاهر

منذ التصدير فى أول صفحات رواية «صورة مريم» للكاتبة مريم العجمى، والكاتبة تستنطق وتفصح عما ستعكسه شروخ المرآة التى كسرتها من أبعاد الشخصية الواقفة أمامها، ثم تبدأ بسرد آنى عن سيدة تحمل بأحشائها ثمرة زواجها الذى لا تدرى كيف مرّت أيامه.

وتأتى لحظة العودة إلى الماضى حين كانت تقف أمام درفتى دولاب الجدة «وقفت أتأمل كمَّ النسخ اللانهائية منى فى صفين متقابلين، إنها أنا فى الجهتين! أى شيطان يسكن المرآة ويتخذ شكلي، يقلدنى ويتضاعف؟! سرعان ما أطبقت جدتى الدرفتين، لكن ما يسكننى بفتحهما لم يغادر أبدا، أنا المكررة» صـ 10 

وتغوص الساردة فى تفاصيل ذاكرتها لتروى كيف فازت بأثاث جدتها «صار الدولاب لي، امتلكت زوج المرايا المتقابلتين، الآن يمكننى مقابلة النسخ اللانهائية منى والتعرف على الحكايا من الماضى والحاضر والمستقبل..» صـ 13 

من هذا المتكأ تشرع الكاتبة فى السير بخطى متوازية فى سرد الرواية الصادرة مؤخرًا عن هيئة الكتاب، فمريم الآنية بمحاذاة مريم المتذكرة، مريم الزوجة تعكس الحياة المخبأة بين تلافيف الذاكرة لمريم الفتاة.

وتحادث كل منهما الأخرى فى منولوج داخلى «أسألها: أتكتبين الشعر؟ - أكتب الحكايات أيضا؟ تسألني: كيف تكتبين الحكاية؟ ومن خلال الإجابة عن هذا السؤال تبين هيامها بالكتابة «أفتح الورق وأكتب حتى صار حضنه الورقى أجمل من حضنه الحقيقي» بل وتخطت ثقتها واعتزازها بنفسها كل الحدود «سألقب نفسى الكاتبة الكبيرة صـ21» وهنا تتضح المعادلة:

مريم الفتاة (الماضى) + مريم الزوجة (الآنى) = مريم الكاتبة والتى أفصحت عنها صراحة بـ مريم العجمي

عمدت الكاتبة إلى تفاصيل نزقة استباحت بها ما يخفيه غيرها فوجدت ذروة متعتها فى تعرية الآخر من مدرسين ومدرسات ممن نالت منهم عقابًا وتضحك عليهم فى خيالها أما قدسية الأب الذى كانت تخشاه حتى فى خيالها انجلت حين عرّته قبل أن يغلق الباب عليه مع أمها. ومن تفاصيل العرى تتذكر طقوس غسل الجدة وهى عارية جنح بها خيال الطفلة إلى أن المفترض من الجدة أن تثور لكنها كانت مستكينة راضية بما تفعله النسوة المتشحات بالسواد بها.

أما عن تعريتها هى فتصفها «تعريتُ أول مرة على الورق، عرفت طعم القبلة الأولى من الكتاب، الحب الأول الرغبة الأولى والرعشة الأولى.... لم أقو على المقاومة، انتفض جسدى ففتحت الكتاب عن آخره، مرّرتُ سبابتى والوسطى بين الصفحتين، تئن البطلة فتدفق سائل رطب ولزج بين السطور... صـ 31 « هنا تتجلى مشهدية الرمز للفتاة الحالمة فى الماضى والتى تنتقل بقوة إلى مريم الآنية فى ليلة العرس والمتسائلة «هذا الغشاء الرقيق الذى شبهته أمى بورقة السيجارة، هل مزقه بقلمه وهو يكتب وأسال عليها الحبر؟ » صـ32

على استحياء عمدت الكاتبة على التناص حين تماست فى سرد تفاصيل لحظات ولادتها بالمستشفى وتمنت «أريد جذع نخلة أهزه يساقط عليّ رطبًا، يتضاعف جفاف حلقي، يوم كامل قبل العملية دون طعام أو شراب..» صـ35 

وتعاود التأرجح بين السرد الآنى الفنتازى «تحوط بى مادة رطبة بن السائل والبخار، تضفى غبشة أسطورية على المشهد بالداخل، تجحظ عيناي، ترتبك أعضائي، تتبادل الوظائف فى فوضى، أرى بأذنين، أتنفس بالجلد، أسمع رائحة الموسيقى، أمد عينى تلامس الأشياء..» صـ43 وبين تذكر عالمها الطفولى وهى تتمنى الحصول على كتاب ملون ووجدته فى دكان خردوات للعم عبد العليم وحين حصلت عليه تمنت سقوط أمطار لترى ألوان قوس قزح.

منذ صغرها وهى تعتز باسمها (مريم) وترى فى نفسها القدرة والقوة على التغيير «أنا السيدة مريم العذراء... جئت لأغير كل شيء، أنا سيدة نساء العالمين، أنا مريم أسمانى أبى بهذا الاسم نسبة للسيدة مريم ابنة عمران... وحدى فى المدرسة لى اسم مريم.. صـ 59 « بل وتغار على اسمها حين أطلق العم حسين على وليدته اسم مريم فصارت متكررة «صرت لا أحد، فقط أربعة أحرف أول حرف يشبه الأخير وأنا أدور بينهما متزحلقة على الراء أطبق على نقطتى الياء وأصل الميم بالميم، سرقوا منى اسمى فصرت أسرق الأقلام من الزميلات..» صـ 62 وهنا تحلل الكاتبة البعد النفسى القاتم لغيرتها حين انتقمت ممن سرقوا اسمها بسرقة أقلام زميلاتها وعقاب أبيها لها على هذه الفعلة واستحالت إلى طفلة عنيدة تنال العقاب المتكرر وبأشكال شتى من عقاب وتقريع ضرب مبرح ومنع من شيء تحبه ...

والمردود النفسى للفتاة المعاندة انعكس على سلوكها الذى ترجمته فى التهرب من حصص الدروس والتوجه إلى بيت الثقافة لحضور ندوته الأسبوعية وعرض ما تكتبه على الحاضرين وثمة شعور بالفكاك والانعتاق من أحبولة القيود التى تعيشها، وصلت المبنى ووصفته جيدًا، وبدأ بها مدير الندوة وقدمها فى ترحيب بأنها وجه جديد وتأرجحت الرؤى عما كتبت بين محبط (الرجل الستينى الأصلع) ومشجع (الشاب الثلاثينى صاحب النظرة النافذة)

>>>

فى سرد أمنيات الماضي، كرهت مريم التلميذة الإخصائية الاجتماعية لكنها أحبت اختصاصية المسرح ووصفت بدقة حسّها المسرحى «كنا متحمسات وهى تقرأ المسرحة قبل أن توزع الأدوار علينا، تلون صوتها حسب كل شخصية...» صـ 72 صنعت لنفسها صوبة مكتملة لإنضاج بذور خيالها للعرض المسرحى المنتظر بعد أيام التدريب على الأدوار وأتقنت دورها المكلفة به وترى فيه التحرر من الذات المكبلة بالقيود: «تلك الآلة البشرية التى انحشرتُ فيها بلا مخرج.. صـ75» 

تنقضى أيام الدراسة وتقترب الامتحانات وتتجرأ فتسأل مديرة المدرسة عن موعد العرض المسرحى وهنا تأتى لحظة التنوير غير المتوقعة وهى حين أخبرتها المديرة أنه لا يوجد عرض للمسرح بل لا توجد إخصائيات مسرح بالمدرسة وهنا يتضح أن كل ما كتبت عن تجربة المسرح بالمدرسة هو خيال × خيال وتكتمل معطيات المعادلة لدوائر شخصية مريم: الفتاة + الزوجة + أخصائية المسرح = مريم الكاتبة. 

تلك الكائنة حين تقف أمام مرآتين وتواجه نفسها بهذا العدد اللانهائى منها ترى نفسها قبل أن تولد «أرانى نطفة فى صلب أبي..» إلى أن صارت عجوزًا.. «تزحف الشعرات البيض فوق رأسي..» ثم تصل إلى ذرة التحول إلى هيولي.. «وهناك فى اللانهائية بين المرآتين أتحوّل إلى نقطة..» صـ 80 

تلك النقطة مسكونة فى عمق أى إنسان، وفى لحظة صفاء يسأل نفسه: لماذا أنا؟!؟ حاولت مريم العجمى فى نوﭬيلا (صورة مريم) الإجابة عن هذا التساؤل والنبش فى حفريات الذاكرة وتحليل عناصر من عوالم متأرجحة بين الثبات والارتباك، القوة والضعف، المجمل والتفاصيل، الانصياع والتمرد، التسامح والقهر، إنها الحياة التى أحيانا لا يهوى الإنسان فهمها تاركًا نفسه ريشة مقذوفة فى مهب الرياح إلى أن يبليه الزمن ويتلاشى كأنه لم يكن شيئا مذكورًا.

نقلا عن عدد أخبار الأدب بتاريخ 4/6/2023

اقرأ أيضًا :