قامت الدنيا ولم تقعد بعد أن طرح الملحن والمطرب عمرو مصطفى فيديو ترويجيا لأغنية جديدة من ألحانه، ولكن بصوت أم كلثوم، مستخدما تقنية الذكاء الاصطناعى، تكررت التجربة ولكن مع صوت العندليب عبد الحليم الحافظ، وقرأنا وسمعنا عن حالة الاستنفار التى أبداها ورثة أم كلثوم وعبد الحليم حفاظا على حقوق الملكية.
الرأى العام تفاعل مع القضية لأنها تتعلق بقامتين غنائيتين ورمزين من رموز مصر الخالدة، ولكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير، وما نشر حتى الآن عن استخدامات الذكاء الاصطناعى أغلبها يدخل فى إطار الطرافة أحيانا أوالمبالغة فى أحيان أخرى، ولكن هناك إجماعاً على أن الإنسانية أمام نقلة جذرية فى تاريخها سيكون البطل فيها هو تطبيقات الذكاء الصناعى (AI).
فى عالمنا العربى مازال الحديث يدور فى أغلبه حول التهديدات التى قد تشكلها هذه التقنيات على مستقبل الكثير من الوظائف التى قد تختفى خلال سنوات ليست بعيدة لتحل محلها تطبيقات الذكاء الاصطناعى التى ستقوم بكل مايقوم به الإنسان بدقة وبسرعة وبتكلفة أقل.
ولكن ماذا عن علاقة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى بالإبداع والنشر ؟
بمعنى آخر هل يمكن أن يأتى اليوم الذى نقرأ فيه عملا روائيا ممتعا أعده برنامج من برامج الذكاء الاصطناعى، وهل يمكن أن أقرأ واستمتع بقراءة قصة قصيرة أو قصيدة من وحى (خيال ) تطبيق إلكترونى ؟ وكما تم استدعاء أم كلثوم وحليم بعد عشرات السنين من رحيلهما هل يمكن أن يأتى وقت نستمع لقطعة موسيقية ( جديدة ) لشوبان أو موتسارت ؟ حتى الآن شكل قريب من هذا حدث وإن كان الأمر ما زال يطلق عليه " هلاوس " كمبيوترية !
ولكن هلاوس اليوم قد تتحول إلى منافس قوى غدا.
هذا العنوان المثير كان موضع ندوة مهمة استمتعت بها وعقدت على هامش معرض أبو ظبى الدولى للكتاب شارك فيها كل من توماس كوكس المدير الادارى لشركة أرق ووركس، ود. أسامه إمام عميد كلية الذكاء الاصطناعى جامعة حلوان، وعمار مرداوى المدير التنفيذى لمنصة رفوف وأدارها د.إيهاب خليفة رئيس وحدة التطورات التكنولوجية بمركز المستقبل للأبحاث.. فماذا قالوا ؟
قال مرداوى إن الاستخدامات الأولية لوقت قريب كانت محصورة فى التدقيق الإملائى واللغوى وتنسيق الكتب ورسم الأغلفة، إضافة إلى التحقق من صحة بعض المعلومات، كل هذه المهام يقوم بها الذكاء الصناعى بدقة وبتكلفة أقل، ولكن الدور الأهم فى رأيى هو دور الذكاء الاصطناعى فى إنشاء وإثراء البيانات الوصفية لأنها تحدد أفضل طريقة ممكنة للوصول إلى المستهلك، وهو ما يعنى تقليل التكلفة والاستغناء عن موظفين أنت كنت مضطراً لتشغيلهم للقيام بهذه المهام.
د. أسامة خليفة كان له رأى مختلف بقوله: عندما نصف إنساناً بأنه ذكى فلابد أن نعقب على ذلك بتحديد نوع الذكاء الذى يتمتع به ونعدد الأسباب التى تجعلنا نحكم هذا الحكم، فالطبيب الشاطرلأنه ماهر فى تحديد المرض ووصف العلاج نتيجة خبراته ودراساته المتراكمة التى تفاعلت كلها فى عقله حتى أصبحنا أمام هذا الطبيب الماهر، فماذا لوكانت لدينا آلة عندها نفس هذه المهارة التى لدى الطبيب وغيره من آلاف الأطباء المهرة أمثاله ؟! هذا ببساطة هو ما يتيحه الذكاء الاصطناعى حيث أصبحنا باستخدام الخوادم والسيرفرات أمام كم هائل من البيانات التى تخضع للتدقيق والمقارنة لتخرج بحل للمشكلات القابلة للقياس ؟
" شات جى بى تى " يعطيك الإجابة بما أتيح له من معلومات،هو مثل الإنسان، ولكنه أشطر منه فى جمع هائل للمعلومات فى زمن قياسى،ولكن إذا كان المدخل خاطئا فسوف يعطيك مدخلا خاطئا.. مثلا أنا سألت (الكلام للدكتور أسامة ) هذا البرنامج عن اسم عميد كلية الذكاء الاصطناعى الحالى لجامعة حلوان أعطى اسما غير اسمى، هو أتى بهذه الإجابة من خلال معلومات خاطئة لأحد مستخدمى الإنترنت الذى أفتى بغير علم.
ولكن هذا لا يعنى أننا كناشرين وككتاب ومبدعين لابد أن نستعد للتغيير الجذرى الذى ستحدثه برامج الذكاء الاصطناعى أمثال " تشات جى بى تى " فهى تتميز بقدرة لا نهائية وغير محدودة على قراءة الكتب المتاحة فى زمن قياسى، ولكنه فى النهاية سيقف عاجزا أمام تحليل المشاعر الإنسانية للمؤلف، قد يؤلف قصة لها مقدمة ووسط وخاتمة،ولكن ماذا عن المشاعر والتجارب الإنسانية للمبدع،كيف سيختلقها أو يبتكرها برنامج ليس لديه خبرات إنسانية متراكمة؟ هل يستطيع أن يبدع لنا شيئا مثل بين القصرين لنجيب محفوظ ؟
بالطبع مستحيل لأن المبدع يبدع بفكره ووجدانه وتجاربه وخبراته الإنسانية وليس بعدد ماقرأ من كتب فقط، الكاتب له هوية ومذاق وروح فى كتابته، هذه المنطقة ومهما حدث من تقدم علمى سيفشل فيها الذكاء الاصطناعى، قد يساعد المؤلف فى كم المعلومات التى يتيحها له، وقد يتيح له مسودات، ويتيح له أسراراً خاصة بكل مهنة وسمات من يقومون بها بحيث اذا كتب يكتب شيئا له قيمة ويعتد به، ولكن كل هذا يبقى بلا قيمة من غير الموهبة الإبداعية التى يمنحها الله لمبدع ومفكر دون آخر والتى تمثل بصمته الخاصة التى تجعل القراء يقبلون على كاتب دون آخر.
هل هذا يعنى ألا نلتفت إلى ما يروج عن خطر الـ AI على سوق النشر ؟
العكس هو الصحيح لابد أن يلتفت الجميع إلى وجود منافس شرش دخل السوق، لذلك لابد من الالتفات مبكراً لما سيحدث من قضايا سوف تثار قريبا ؟
كيف ؟
علمياً هناك ظاهرة موجودة على الساحة العلمية اسمها «انتحال العلم» كأن يقتبس باحث من بحث من سبقه،ونسبة الاقتباس هى التى تحدد إن كان قد اقتبس أم سرق جهد غيره ونسبه زورا وبهتانا لنفسه.. الخطورة أن " تشات جى بى تى " لديه إمكانية معالجة الاقتباس، والقيام بما يمكن اعتباره محواً لأدلة الجريمة بأسلوب علمى اسمه «ريفريزنج» بالتدخل فى إعادة صياغة المحتوى، ولكن ولأن العلم لا يتوقف وكما يقول دكتور أسامة فهناك بالتأكيد برامج سوف تكتشف ما تم القيام به من محاولة لتزوير الأدلة والمستمسكات.. لذلك لابد أن ينتبه الناشر حتى لا يدخل فى متاهة ويجد نفسه ملاحقاً قضائياً لنشره محتوى يكتشف بعد فترة أنه مفتبس وخضع لتقنيات الذكاء الاصطناعى ؟
ولكن هل يخضع المنتج الذى ينتج بتقنيات الذكاء الإصطناعى للحماية الفكرية ؟
الكاتب الذكى يجب أن يوظف هذه التقنية الجديدة فى زيادة مصادره وأبحاثه ولكن مع الحفاظ على هويته لأن هذه النقطة ستبقى نقطة ضعف وقصور لدى الذكاء الاصطناعى الذى لن يكون خطراً على وظائف الإنسان ولكنه سيكون خطراً على من لا يستخدمه.
على الناشرين أن يستعدوا لهذا الضيف الجديد ولمتخذ القرار لابد أن يشرع قوانين واضحة تحافظ على حقوق مبدعيها لأن المعلومة كنز والمبدعين فى كل المجالات كنوز والتراث الخاص منجم، فلابد من وضع أخلاقيات وضوابط للمهنة.
لحسن الحظ أننا فى عالمنا العربى مازال الأمر فى بداياته لضعف الاستثمارات فى مجال الذكاء الاصطناعى الموجه بالعربية رغم أنه يخاطب سوقا كبيرة قوامها 350 مليون نسمة، وهو ما يعنى ضرورة التحرك المبكر.
نعود لما ستحدثه هذه البرامج من إشكاليات يقول- عمار مرداوى هناك قضية شهيرة تتعلق بحقوق الملكية الفكرية لمجموعة صور أنتجت بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى فى الولايات المتحدة الأمريكية، فكان هناك رفض لمنح الملكية على اعتبار أنها نتاج آلة، ولكن المحامى أثبت أن المدخلات التى قام بإدخالها صاحب هذه الصورة للكمبيوتر كانت مؤثرة وحيوية فى صناعة ما تم إنتاجه لذلك تخضع للملكية الفكرية.
وفى 15 مارس الماضى أصدر مكتب حقوق الطبع والنشر الأمريكى بيانا قال فيه إن المحتوى الذى سيتم إنشاؤه عبر الذكاء الاصطناعى من الممكن أن يخضع لحماية الملكية الفكرية وبحكم القانون بشرط أن تكون هناك مدخلات واضحة أدت الى هذه النتيجة وفق ثلاثة معايير هى : مدى مساهمة المؤلف البشرى فى العمل النهائى مع تقديم المدخلات التى على أساسها تم إنتاج النص ولو كانت هناك تعديلات أو مساهمة فى التأليف أو وضع صورة... إلخ... العالم منشغل بهذه القضايا منذ فترة وفى 2018 كان هناك كتاب مصور يتضمن مجموعة صور تم إنتاجها بالذكاء الاصطناعى وقت أن كانت التجارب فى طورها الأول وفشلوا فى منحه حقوق ملكية فكرية الأمر اختلف الآن وأصبح هناك أول كتاب مصور للأطفال منتج بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى يخضع للحماية الفكرية معها نص صغير مصاحب لكل صورة.. هذه المعايير تنطبق على أى منتج إبداعى من الموسيقى إلى الفن التشكيلى، لذلك الأمر يحتاج إلى مزيد من الحوارات التى تشارك فيها جميع الأطراف المعنية، حتى المستخدم.
• الدورة الأخيرة لمعرض أبو ظبى الدولى للكتاب الذى ينظمه مركز دبى للغة العربية بقيادة الدكتور تميم بن على خطات خطوة كبيرة إلى الأمام، هى خطوة أقرب إلى قفزة تسعى بها أبو ظبى أن تكون مؤثرة فى الفكر والثقافة، ولا تبقى فقط العاصمة السياسية لدولة الإمارات.. ما أعظم التنافس فى مثل هذا المجال .