سياسة حافة الهاوية .. أزمة سقف الدين الأمريكي

مهند عدلي
مهند عدلي

بقلم: مهند علي

منذ عام 1966 رفع الكونجرس الأمريكي الحد الأقصى للاستدانة 78 مرة وكانت المرة الأخيرة في ديسمبر من عام 2021 حيث تم رفع سقف الديون الأمريكية بمقدار 2.5 تريليون دولار ليبلغ 31.381 تريليون دولار، واستمر السقف عند هذا الحد حتى عام 2023.

وقانون سقف الدين الأمريكي هو عبارة عن أداة تتيح للحكومة الأمريكية الاستدانة حتى رقم محدد دون الحاجة إلى أخذ موافقة الكونجرس على أي إجراءات أو قروض طالما كانت تحت حدود هذا السقف، وذلك كآلية لتسهيل اقتراض الحكومة الأمريكية من الأسواق المالية خاصة في الديون الأمريكية وإدارة عمليات الإنفاق الحكومي وسداد التزاماتها وضمان عدم تخلفها عن سداد هذه الالتزامات بما له من آثار سلبية هائلة على التصنيف الائتماني للولايات المتحدة وعلى سعر الدولار وعلى الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي بالتبعية، وهذا التأثير الهائل هو الذي يقف وراء حالة الاهتمام العالمي المتزايد لمتابعة سجالات الأحزاب السياسية الأمريكية  في هذا الشأن.

وتاريخياً كان سقف الدين السبب وراء الكثير من المناظرات الحادة التي وصلت إلى مرحلة الأزمة حتى أنها أدت في بعض المرات إلى تعطل بعض أجنحة الحكومة الفيدرالية عن العمل، وعادة ما يدور هذا الصراع بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي ويتمثل في مؤسسة البيت الأبيض من ناحية والكونجرس من ناحية أخرى، ومدى قدرة كل منهما على استخدام سقف الدين كأداة للمساومة السياسية، ولا مانع لدى أي طرف في الوصول بالأمور إلى حافة الهاوية. 

فمثلاً هدد رئيس مجلس النواب الأمريكي عام 1995 نيوت جنجريتش بالنيابة عن الجمهوريين في مجلس النواب الأمريكي بمنع رفع سقف الدين للضغط على الحكومة والتفاوض معها للعدول عن سياستها في تخفيض النفقات الحكومية، لكن الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون رفض التهديد، مما أدى إلى تعطل الحكومة الفيدرالية عن العمل، لكن في النهاية اتفق البيت الأبيض والكونجرس على ميزانية متعادلة تتضمن تخفيضاً متواضعاً للنفقات الحكومية مقابل زيادة في حجم الضرائب.

وأيضاً واجه الرئيس أوباما أثناء توليه المنصب إشكالية مماثلة، حيث طالب الجمهوريون في الكونجرس بتخفيض عجز الموازنة مقابل موافقاتهم على رفع سقف الدين الحكومي عام 2011، مما تسبب في  فقدان ديون الخزانة الأمريكية لتصنيفها الائتماني المتميز من مؤسسة ستاندرد آند بوزر عند “AAA” والذي حافظت عليه الولايات المتحدة لأكثر من 70 عاماً. 

وفي عام 2013 استمر تعطل الحكومة الأمريكية طيلة 16 يوماً بسبب محاولة الجمهوريين المحافظين منع تمويل قانون الرعاية الصحية "أوباما كير" عبر رفض رفع سقف الدين وعملاً بسياسة حافة الهاوية.. وقبل انتهاء المدة المقدرة بنفاذ أموال الخزانة بيوم واحد، توصل الطرفان لاتفاق في هذا الشأن ليتم رفع سقف الدين أكثر من مرة في الأعوام التالية 2014، و2015، و2017.    
 
ومع تجاوز ديون الولايات المتحدة 20 تريليون دولار لأول مرة في 2017 قدم الرئيس الأسبق دونالد ترامب بتمديد سقف الدين حتى الثامن من شهر ديسمبر من نفس العام، وعُلق العمل لقانون سقف الدين لاحقاً لمدة 13 شهر بموجب قانون صدر في فبراير 2018، ولكن أعيد تفعيل سقف الدين مرة أخرى عام 2017، ليتم رفعه مع تجاوز ديون الحكومة الأمريكية مبلغ 22 تريليون دولار. 

وفي أغسطس 2017، أقر الرئيس السابق ترامب قانون موازنة الحزبيين لعام 2019، والذي عطل العمل بسقف الدين حتى نهاية شهر يوليو 2021، حيث رفع هذا القانون حجم مخصصات الإنفاق الحكومي مع ضمان قدرة الحكومة على تسديد التزاماتها قصيرة الأجل، ورغم أن هذا القانون قد أدى إلى تعطيل سقف الدين إلا أنه قد أدى إلى تقليل مخاطر التعثر في السداد لمدة عاميين آخريين، وزيادة حد الإنفاق إلى 320 مليار دولار للسنتين الماليتين 2020  و2021.. وفي أغسطس 2021، حدد الكونجرس سقف الدين عند 28.4 مليار دولار، والذي تم رفعه إلى 31.4 مليار دولار. 

هذا الاستعراض التاريخي وإن كان يكشف عن حالة من الحيوية السياسية والنضج الاقتصادي، إلا إنه يوضح إلى أي مدى يعاني الاقتصاد العالمي بل ويكاد يصاب بسكتات قلبية أثناء متابعته لمجريات هذه العملية، فليس هناك يقين دائم يمكن التعويل عليه وحتى الرهانات أو الافتراضات المعلبة حول السماح أو عدم السماح بإغلاق بعض القطاعات الأمريكية الحكومية أو اهتزاز الدولار أو التخلف عن السداد قد يجد نفسه غارقاً في اختلافات بحر السياسة الاقتصادية للأحزاب الأمريكية، فعلى مدار 79 مرة كانت كل الخيارات مفتوحة والتوقعات ممكنة. 

 ولعل هذا مع أسباب أخرى كثيرة يكشف السبب حول بحث كبار اللاعبين الاقتصاديين على المستوى العالمي لمحاولة إيجاد بدائل أكثر استقراراً للأدوات المالية العالمية، ليس فقط من اللاعبين الخصوم مثل روسيا أو الصين أو إيران أو غيرها ولكن حتى من الحلفاء سياسياً والمنافسين اقتصادياً مثل أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها، فسياسة حافة الهاوية لا تفرق كثيراً في تداعياتها بين الحليف المنافس والخصم اللدود.