عبد الرحمن مقلد يكتب: قصيدته التى تتكلم

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

ظُلم أمل دنقل كثيرًا بأن أُقصى جبرًا من قبل الأجيال التى تلته من الحداثة، متوهمين بأن مقولاتهم المعادية للقصيدة الدنقلية قادرة على تهميشها لصالح مقولاتهم ولصالح نصوصهم، مصورين أنها قصيدة سلطوية، فإذا بها تعبرهم جميعًا. فلا يكون أمل دنقل «آخر الشعراء الجاهلين»، كما رأوا، ولا يكون «هذا الشاعر القومى» الذى جعل شعره صدى لخطاب سياسى أو قومى، أو لعصر ما محدد، أو قضايا ميتة، ولا كان أيضًا الشاعر الذى استجاب لهوس الجماهير، فكان شعره خطابًا مُدججًا للمشاعر، وغيرها مثل هذه المقولات التى رددها الكثيرون فى محاولة للانتقاص من شاعرية أمل دنقل، وهى تجافى الصواب وتظلم هذا الشاعر ظلمًا كبيرًا، بل تظلم التأريخ الأدبى بأن تصور شعر الحداثة منافيًا ومجافيًا لشعر واحد من أهم الشعراء العرب.

اقرأ ايضاً| أب أم ضمير شعري؟.. كيف ينظر الشعراء الشباب لأمل دنقل؟


أرى أن شعر الحداثة وما بعد الحداثة ليسا نصًا واحدًا، ولا دجمة رسخت بحكم مخالفتها لما سبقها من دُجم، فيتيقن كاتبو النص الجديد ومنظروه أنه لا بد مثلًا أن يبتعد عن تناول القضايا الكبرى؛ أن ينشغل بما هو كونى، أو إنسانى رجراج (دون إمساك بهوية محددة)، أو هامشى أو يومى عابر أو سوريالى أو غامض، أو مُضاد لليقين أو الحقيقة، أن يكون مجرد إبحار فى اللغة؛ أو فوضى من هذا كله. هذه المحاولات مع احترامى لها لا يمكن أن نغلق عليها الباب، ونقول إنها هى فقط التى تمثل الموجات الأحدث من الشعر؛ بل ونطرد ما يجافيها، حتى يبالغ البعض ويتطرفوا ليجعلوا الشاعر بلا موقف؛ فيكون عندهم مُهمشًا مهزومًا ضعيفًا منكفيًا على ذاته مُنشغلًا بالشتات والهيولى والغرابة أو مُصابًا باليأس والملل وأسير نفسه فقط. 


هذا ما أحب أن أقف عنده ناظرًا لمواضيع أمل دنقل فى شعره؛ لنرى أنه وإن جعل للشاعر موقفًا، وحمله مقولة واضحة متجذرة، لم يكن موقفه جهوريًا ولا ساخطًا ولا مباشرًا ولا فجًا ولا سلطويًا.

وإنما كانت مواقفه حاملة روح تنصر الضعيف، وترى بعين المهمش، وتعبر عن المهزوم، والجائع والفقير، وتنتقد السلطة، وتنتصر للعدل.


أى أن الهامش هو المتن فى شعر أمل دنقل أيضًا، ولكنه لا يكتفى بالصمت والشكاية، وإنما يتطلع ويتكلم، ليس أخرس ولا باسط كفيه بالوصيد ينتظر، يمثل هذه الصرخة: من قال لا فى وجه من قالوا نعم. 


هل يجب أن نلوم أمل دنقل على هذا؛ نلومه لأنه شاعر له موقف، وأن شعره يتمثله الناس، ويرون أن صوتهم امتزج فى صوته؛ هذا أمر غريب. 


أرى أن هناك انتصارًا دائمًا من الجمهور لشعر أمل دنقل فى وجه النخب المنكفئة على شعرها الميت. وهناك وعى جديد يجب أن يتشكل فى الشعر بأنه يجب على هذا الفن أن يكون له صوت، وأن على الشاعر أن يستعيد حنجرته، دون أن يكون صراخه فارغًا، وعقله خاويًا، وروحه فقيرة.