‏د.ثائر زين الدين يكتب: لوحات أمل.. وألوانه

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

لم يلتفت دارسو أمل دنقل إلى أثر الفن التشكيلى فى شعره، وهى ظاهرة لا تلفت إليها الانتباه كما هى الحال مع التراث أو البنية الإيقاعية عند الشاعر، لكنها جديرة بالبحث.«١» ففى قصيدة “ ضد من” نجد أنفسنا أمام لوحة مرسومة بلونين فقط الأبيض والأسود؛ الشاعر هنا مصّور بامتياز، ولكنّه يستخدم قلم الفحم أو قلم الرصاص فحسب، ويتمكن من حشد الدلالات الكامنة فى وجدان الإنسان العربى وروحه حول هذين اللونين، وقد يقلبُ دلالات اللون إلى نقيضها كما سنرى ويشحن بها نَصّه المكتوب فى المستشفى.

تقولُ القصيدةُ:

«فى غرف العمليات،

كان نقابُ الأطباء أبيض،

لونُ المعاطف أبيض،

تاجُ الحكيمات أبيض، أرديةُ الراهبات،

اقرأ ايضاً| د.لحسن عزوز يكتب : «يَومِيات كهل صَغير السِنّ»التضاد أول عناصر الشعرية

الملاءاتُ،

لون الأسرة، أربطةُ الشاش والقطن،

قرصُ المنوم، أنبوبة المصل،

كوب اللبن.

كل هذا يشيع بقلبى الوهنْ.

كل هذا البياض يذكرنى بالكفنْ!

فلماذا إذا مت ..

يأتى المعزون متشحين ..

بشارات لون الحدادْ؟

هل لأن لون السوادْ . .

هو لون النجاة من الموت،

لون ُ التميمة ضد . . . الزمنْ،

ضد منْ . . ؟

ومتى القلب – فى الخفقان – اطمأنْ ؟ !

بين لونين: أستقبل الأصدقاءَ . .

الذين يرون سريرى قبراً

وحياتى . .  دهراً

وأرى فى العيون العميقة

لون الحقيقة

لون تراب الوطن !«٢»

فى هذه القصيدة يبدو الشاعر رساماً ماهراً؛ ففضاء اللوحة مشغول بأطباء يرتدون نقاباً أبيض، و «بحكيمات»  على رؤوسهن تيجان بيضاء ...وبأردية راهبات بيضاء – وهنا نستغرب وجود الراهبات فى هذا الموقع ونستنتج بعد القراءة المتأنّية أن الشاعر ليس مسكوناً بلعبة التلوين بالأبيض بقدر ما يفرض الموت نفسه عليه كهاجس رابض فوق صدر القصيدة، فإذا بالراهبات يبرزن هنا بأرديتهنّ البيضاء بما يمثلّنه من تشييع جنائزى للشاعر.

‏ ويتابع دنقل تأثيث فضاء لوحته فإذا بالأسرة مرسومة بالأبيض وكذلك أربطة الشاش والقطن وقرص المنّوم، الذى لابدّ منه كى يستطيع النوم والاستراحة من الألم والقلق، أنبوبة المصل، وكوب الحليب.

إن هذا البياض لا يبعث فى روح الشاعر إلا شعوراً بالوهن ... شعوراً بدنوّ الأجل... إنه يذكر بالكفن! ...

لقد ترك الشاعر دلالات اللون الأبيض التى رسخت فى وجدان الإنسان العربي، مسلِماً ومسيحيّاً، كلها ولم يأخذ إلا دلالة الموت . . . ومعروفٌ لنا جميعاً أن اللون الأبيض ارتبط عندنا – على الأغلب – بمفهوم الطهر والنقاء والقداسة والخير والكرم والعطاء وتفاءل الناس به، وقد جاء فى القرآن الكريم أيضاً ضمن هذه الهالة من الدلالات. تقول سورة الصافات:  « فى جنّات النعيم * على سررٍ متقابلين * يطاف عليهم بكأس ٍ من معين * بيضاء لذّة للشاربين» «٣»  ، وجاء فى سورة النمل:  «وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء«٤»  .

ونلاحظ أن اللون الأبيض بدلالاته تلك وما يثره من هواجس يشغل نصف القصيدة...

ليبدأ الأسود بالظهور فى النصف الثانى مكمّلاً اللوحة، وشاغلاً مكانه المطلوب ...فها هم المعزون يأتون – كما يتخيل الشاعر – بأرديتهم السوداء ...

وقد لبسوها كتميمة ٍ ضد الموت (بلونه الأبيض) ودلالات اللون الأسود فى مجتمعاتنا تدور دائماً حول الموت والاندثار والعماء والقبح (على الأغلب) وقد وردت فى القرآن الكريم ضمن هذا السياق؛ يقول تعالى:  « يوم َتبيض وجوه ٌ وتسود ّ وجوه ٌ فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم فى رحمة الله هم فيها خالدون  «٥»

ويرى علماء اللون بالنظر إليه من زاوية رؤيا علم النفس:  « اللون الأسود من أشدّ الألوان قتامة وفى الحقيقة هو عبارة عن نفى اللون، واللون الأسود يمثل الحدود المطلقة التى بعدها تتوقف الحياة، ولذلك فهو يمثل فكرة العدم والانطفاء، والأسود يمثّل  « لا  «، بينما الأبيض يمثل  « نعم  «، اللون الأبيض يمثل الصفحة العذراء التى لا تملؤها القصة بعد، بينما الأسود هو النهاية التى بعدها لا يوجد شيء  «٦».

ولا يختلف اثنان فى عالمنا العربى مثلاً أن اللون الأسود هو رمز الحزن والألم والموت والخوف من المجهول والميل إلى التكتم، ولأنه سلب اللون فهو يدل على العدميّة والفناء «٧»

ومع كل ذلك اللونِ عند أمل دنقل شأن آخر ... لقد أراده دلالة على النجاة من الموت؛ أراده تميمة ترفع فى وجه الفناء كما أسلفت: ويختم بأن اللون الحقيقى والباقى فى النهاية، هو ما يراه فى عمق العيون التى تزوره ...إنه لون تراب الوطن !

ولن يتردد أمل دُنقل فى تسمية قصيدته لوحةً كما فعل فى قصيدتي»  الموتُ فى لوحات  «٨» و»رسوم فى بهو عربى  «٩» وذلك بسبب صلات القربى الوثيقة بينهما وبين الفن التشكيلي؛ ففى الثانية منهما قدّمَ الشاعِرُ ما يُريدُ قوله فى أربع لوحات، أفردَ لكلِّ لوحةٍ منها مقطعاً، حَمَلَ رقماً من (1) إلى (4). نقرأ المقطع الأوّل:

١

اللوحة الأولى على الجدارْ:

ليلى  « الدمشقيّة ْ»

من شرفةِ  « الحمراءِ  «ترنو لمغيبِ الشمسِ،

‏ ترنو للخيوطِ البرتقاليّةْ

وكرمةٌ أندلسيَّةٌ وفسقيّةْ

وطبقاتُ الصمتِ والغبارْ!

‏نقش

‏مولاي، لا غالب إلا الله

إذاً ضَمّ المقطع السابق اللوحة الأولى؛ وهى لوحةٌ بكل معنى الكلمة بدءاً من إطلاقِ هذا المصطلح عليها وانتهاءً بتكوينها؛ فالمشاهِدُ فى ذلكَ البهو العربى يقفُ أمامَ عملٍ فنّيٍ يضمُّ داخِلَ إطاره صورةَ فتاةٍ دمشقيّة (ليلى) تُطّلُ من شرفةِ قصر الحمراء فى الأندلس، وترنو إلى الشمس، وهى تنحَدِرُ إلى المغيب وقد أرسلتْ خيوطها البرتقاليّةِ على الدُنيا، ومنها داليةُ عنبٍ وفسقيّة أسفل شرفةِ ليلى.

اللوحةُ التى وصَفَها المتحدث (وأقول المتحدث وليس بالضرورة الشاعر) تبدو مألوفة إلى حدٍ بعيد؛ فقد رَسمَ كثيرٌ من المصّورين مشهداً مشابهاً؛ لكنّ تحديد هويّة الفتاة (دمشقيّة)، وهويّة المكان (الحمراء)، ومن ثمّ انقطاع الوصف، لتفاجئنا سطور خالية يعقبها سطر يقول  « وطبقات الصمتِ والغبار!  « كل ذلك يُبعد اللوحة والحالةَ عموماً عن المألوف باتجاه المدهش، ولاسيّما حين نضيفُ إلى المشهد ما جاء تحتَ عنوان فرعى صغير  « نقش »:  « مولايَ، لا غالبَ إلا الله “، وهو شعارُ بنى الأحمر؛ وهذا النقش والنقوش الأخرى التى ستأتى تباعاً بعد كل لوحة، يمكن عدُّها لوحاتٍ فنيّة أيضاً، بالعودة إلى مفهوم النقش فى الثقافةِ العربيّة الإسلاميّةِ وانتشارِهِ على جدران المساجِدِ والمبانى والقصور. هذهِ النقوش فى النصوصِ إذاً هى أجزاء من اللوحات الأصليّة؛ كأن يكون شعارُ بنى الأحمر  « لا غالب إلا الله  « بادياً على شرفةِ ليلى نفسها، أو ربّما أرادَهُ الشاعِرُ منفصلاً؛ فعينُ المشاهد التى تستعرض  « رسوم البهو العربى  « تقعُ أيضاً على نقوشٍ مُجاورةٍ للوّحات؛ ولنا أن نتخيل هذهِ النقوش التى هى لوحات حروفيّة بكل معنى الكلمة، مكتوبةً بالخطِ الكوفى أو الثلث أو الديوانى أو سواها من الخطوط العربيّة على جُدُرِ المبانى وبيوت العبادة بصورةٍ أخّاذةٍ!

ابتدأت قصيدةُ دنقل التى نتحدّثُ عنها بالمقطعِ الأوّل ولوحة ليلى الشاميّة الأندلسيّة التى وصفناها وكأنى بالشاعِرِ – الذى نأى بنفسِهِ عن إنشاءِ القصيدة بصوتِهِ الشخصى وكلّف بذلك زائراً ينُظُر إلى لوحات البهو العربى – أرادَ أن يبدأ القصيدة من لحظةِ انهيارِ الحضارةِ العربية فى الأندلس كمؤشرٍ على تتالى الانهيارات وصولاً إلى لحظةِ كتابةِ النص؛ وهى فيما أظن أواخر الستينيّات من القرن العشرين، وإلاّ فلماذا ترنو ليلى من شرفتها فى قصر الحمراء إلى الشمس الغاربة ألا يتضمن ذلك الإيحاء بغروب الحضارة العربيّة نفسها، ولماذا يخبرنا المشاهِدُ بعد قليل أن اللوحة مغطّاة بطبقاتِ الصمت والغبار؟! أما النقشُ الجليل الذى يُطلُّ برأسِهِ فى نهاية المقطعُ فما هو إلا شاهد على قومٍ كانوا واندثروا!

المقطع الثانى من القصيدة يُقدّم لنا لوحةً أخرى: 

‏2

اللوحةُ الأخرى ... بلا إطارْ: «٥»

للمسجد الأقصى ... ( وكانَ قبلَ أن يحترقَ الرواقْ )

وقبةِ الصخرةِ، والبراق

وآية تآكلتْ حروفها الصغار!

نقش

‏مولاي، لا غالب إلا... النار

إنها لوحة تصوّر المسجد الأقصى بكل بهائِهِ وجلالهِ، لكن جملةً واحدةً بين قوّسين تجعلنا نتخيل لوحةً أخرى موازية، وتسحَبُ الزمنَ إلى فترة الاحتلالِ الإسرائيلى لفلسطين، وتعْرِضُ أمامنا ممارساتهِ فى تهويد البلاد، وتدمير معالمِها وأوابدها التاريخيّة والتراثيّة، أما النقشُ فيأتى هذهِ المرّة تحويراً لشعار بنى الأحمر وينطوى على سخريةٍ مُرّة؛ فالنيران التى أوقدها الصهاينة قد التهمت أجمَلَ ما فى المسجد الأقصى وتآكلت حروفُ الآياتِ باذخة الجمالِ والروعة على جدرانِهِ بفعل الحرارة والدخان...

بعد ذلك يأتى المقطع الثالث حاملاً لنا لوحة جديدة رُسِمَ عليها فصلٌ جديدٌ من فصول تاريخ العرب الحديث؛ وبالتحديد تاريخ مصر الحديث:

اللوحة الداميةُ الخطوطِ، والواهيةُ الخيوطْ:

لعاشق محترقِ الأجفانْ

كان اسمُهُ  « سرحانْ “

يمسكُ بندقيةٌ ... على شَفَا السُّقوطْ!

‏ نقش

‏بينى  وبين الناسِ تلكَ  «الشَّعْرة»

لكن من يقبضُ فوقَ  «الثورةْ»

يقبضُ فوق الجمرة

إنها لوحة تصّور أحد الثوّار، رُبّما ثوار مصر الذين سيقودون النضال القومى فيما بعد؟! لكنّها ثورة تُنذرُ بالإخفاق – كما يصفها المشاهد – إنها لوحة  « دامية الخطوط  « و  « واهية الخيوط  « ؛ والثائر سرحان يبدو فيها ممسكاً بندقيته ولكنه منهارٌ تماماً، ويوشكُ على السقوط وقد احترقت أجفانُهُ بالمعنى الحرفى للعبارة، أو المجازى ) جَّراء السهر والتعبِ والترقّب(، ثُمّ يأتى النقشُ الجديد مستحضراً عبارة معاوية بن أبى سفيان، التى لخصّت سياسَته يومذاك فى تعامِلِهِ مع  « رعيتهِ  «، ليقول لنا الشاعرِ إن هذهِ السياسة ما تزالُ قائمة، إلا أنّ السائس مستعّدٌ اليوم لقطع هذهِ الشعرة نهائياً حين تحاوُلُ الناس أن تثور على»  ولى نعمتها

اللوحة الرابعة والأخيرة تأتى لترسم فصلاً جديداً من فصول هزائم العرب؛ إنها تقدّم لنا هزيمة 1967 على النحو الآتي:

‏٣

اللوحة الأخيرةْ:

خريطة مبتورة الأجزاءْ

كان اسمها  « سيناءْ”

ولطخة سوداء

تملأ كل الصورةْ

نقش

‏ الناس سواسية – فى الذل – كأسنان المشطْ

ينكسرون كأسنان المشطْ

فى لحية شيخ النفط)

لقد اختار صورة لخارطة سيناء للتعبير عن الهزيمة المذكورة، فجاءت الخريطة مبتورة أو مأكولة؛ ذلك أن جيش العدو الصهيونى كان قد وصل إلى قناة السويس ملتهماً سيناء كلها !!

وبالمقابل عبّر النقش أسفل اللوحة عن حال الناس فى داخل أقطارهم: إنهم سواسيّة – كما عبّرت الثورات القوميّة الاشتراكية يومذاك – ولكنهم سواسيّة فى الذل والخنوع والفقر؛ وما دامت الثورة النفطيّة كانت قد بدأت فى دول الخليج ...ونأى أصحابها بأنفسهم عن قضية العرب الأولى؛ فقد استعار هذه الصورة البلاغيّة الساخرة والمؤلمة للتعبير عن حال التساوى فى الذل؛ التى ذكرنا.

وفى ختام القصيدة لا يحلو لزائر معرض لوحات البهو العربى إلا أن يكتب ملاحظاته على المعرض – كما هى العادة – فيأتى المقطع الأخير الطافح بالمرارة واليأس:

‏“ كتابة فى دفتر الاستقبال:

لا تسألى النيل أن يعطى وأن يلدا

لا تسألى ... أبدا

إنى لأفتح عينى حين أفتحها

على كثير ٍ ... ولكن لا أرى أحداً !!

ويستحضر الشاعر هنا شاعراً عربياً يعدّ من أوائل الذين ثاروا على الاستبداد فى تاريخنا العربي؛ هو دعبل الخزاعي، وذلك من خلال البيت الأخير  « إنى لأفتح عينى ...» ، ليصل ماضينا الطافح بالمرارة والخذلان بحاضرنا الذى يكرّس ذلك !! لقد تشابهت التجربتان، والتقتا فى نقاط عديدة؛ ما جعل الشاعر الحديث يستعير صوت الجدِّ السالف، مستعيناً بهِ من خارج نصه، موظِّفاً طاقته التعبيريّة الكبيرة، المستندة إلى كل ما علق بوجدان القارئ العربي، فى النص الجديد؛ وهذا الأمرُ ليس غريباً على أمل دُنقل، فقد استرفدَ فنيّاً ومعنويّاً التراثَ العربى وشخصياته فى معظم نصوصه بصورةٍ خلّابة.

هوامش

1 • انظر: ثائر زين الدين، ضوء المصباح الوحشى /فى العلاقة بين الشعر والفن التشكيلي، دمشق، دار الملايين،2011.

2 • أمل دنقل، الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت، ص 440- 441 .

3 • القرآن الكريم، سورة الصافنات، الآيات 43، 44، 45.

4 • القرآن الكريم، سورة النمل، الآية 12.

 5• القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآيتان 106 – 107.

 6• اختبار الألوان وقياس الشخصيّة، لا شر، ت: د. أنور رياض عبد الرحيم، دار حراء، المينا / 1985، ص 73 .

7 • د. أحمد مختار عمر، اللغة واللون، دار البحوث العلميّة، الكويت، 1982، ص 186.

8 • أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، دار العودة، بيروت 1985، ص ( 192 – 196 )

9 • نفسه، ص ( 386– 388 ).