«سبحة وسيجارة وخلخال» قصة قصيرة للكاتبة نفيسة السنباطي

«سبحة وسيجارة وخلخال» قصة قصيرة للكاتبة نفيسة السنباطي
«سبحة وسيجارة وخلخال» قصة قصيرة للكاتبة نفيسة السنباطي

لاحت لي منسية على درجة السلم الرخامي أمام شقتي. بيضاء بكامل رونقها. لم تمسها يد، لم تتجعد، ولم تفرك. لا أدري لما مددت يدي وحملتها كجسد أُنقذه برفق. فتحت باب شقتي ولأول مرة أتأملها، شعور غريب جعلني لم أستطع رميها في سلة المهملات.

مهملة هي، سيئة السمعة، كريهة الرائحة، ولكنها تحتفظ برداء غريب من وقار. وبرغم كرهي لها، ولرائحتها. وجدت نفسي أضعها على الكومود بجانب مسبحتي العقيق، وخلخالي الفضي ذو الأجراس الصغيرة، ليقف جوارهم بشموخ أحمر شفاهي القاني. أنظر لهم وتتماوج بداخلي الذكريات لأعود بذاكرتي لطفولتي في قرية بني حميل في صعيد مصر.

 

أجري حافية أتأمل قدمي والتراب الدافئ يكسوها، ومن ثم أغمسها في مياه الترعة أتحسس برودتها فيهتز جسدي بنشوة حلوة. أهرول للقبور، أفرح كباقي الأطفال بالرحمة التي يوزعها أقارب الميت أمام قبره. أجلس طويلا أمام الأضرحة بقبابها الملونة التي تساقط بعضا من قشرتها لتحفر عليها خارطة لبلاد مجهولة. كانت السكينة تعمها، والرحمة الباطنية التي توزع هناك أكثر بكثير من الرحمة التي يوزعها المريدين. تتنزل الرحمة على قبابهم ومن ثم قلبي.

 كنت أحيانا أتخيل قلبي وهو يسع كل الأضرحة ويحتويها رغم أنها هي من تحتويني. كنت أشاهد النساء اللاتي لم ينجبن، والرجال الذين يعانون من آلام عظامهم ينامون على أرض الكحريتة المستوية ليتدحرج جسدهم ولا يتوقف إلا بالجهة الأخرى. ثم بعدها يعلنون قضاء حاجتهم بالطعام والحلوى والحبوب التي يتركونها على أرض الكحريتة ليأكل منها صاحب النصيب، إنسانا كان أو حيوانا أو طيرا.

كان أقربهم لقلبي قبة فوق ربوة عالية يعشش اليمام في طاقتها النصف دائرية. فأجلس أمامها وأتوه في خيالتي النورانية، أسمع ترانيم تأتي من الملكوت، وأشعر في عز القيظ برفرفة أجنحة الملائكة فينتشر نسيمها ويسكن جسدي بسُكر، وتجذب روحي لعوالم تتفتح في عمق ذاتي كورود تنمو في كف الرحمن.

ذات مرة وأنا أنزل رأيت عبد الودود مختبئا مع الأولاد، يلف الورق ويدخنه. كان طفلا فقيرا يتيم الأب والأم، يعيش مع عمته الكبيرة تِرَيه وحيدين في غرفة كانت مخزنا للتبن. كنت أحب العمة تريه وكانت تعرفني رغم بصرها الذي يرى الناس مجرد أشباح شفافة. نلعب أمام البيت الذي لفظ غرفتهما عنه وبترها. ألقي نظرة فضولية داخلها لأرى حصيرة متآكلة تفترش الأرض الرطبة، وكانون ترقد عليه حلة «مهببة» من الألمنيوم، تحمل بوهن غطاء صغيرا غير غطاءها فتشعر أنه طفل يرتع فوق عجوز. تستكين الحلة بين نتوء وغور إثر سقوطها عشرات المرات من يد العجوز.

كان عبد الودود طفلا ذكيا نبيها رغم مظهره المعفر وثيابه الدائبة التي لم تكن على قياسه أبدا، فإما صغيرة ضيقة، وإما كبيرة مهلهلة، وفي كليهما كانت مهترئة تحاول إحياءها الكثير من الرقع.

ذات يوم رأيت عبد الودود بجلباب جديد يمشي متبخترا فيه. أثنيت عليه فرحة بمظهره، فقال: البيه قريب العمة جبهالي. فابتسمت بحماس: أحكيلي يا عبده. ابتسم ولمعت عيناه اليتيمتين وقال بصوت مسحور: أخدني أنا والعمة تريه بالحنطور، يا سلام يا صفية الحنطور كراسيه جلد ناعم وطري، تحسي إنك عم تغوصي فيه غوص، وصوت حدوة الحصان حلوة كأنه عم يرقص. دخلنا دكان قماش واشترالنا اللي نفسينا فيه، وبعدها خدنا على الترزي عم جيزاوي، عم يتكلم مصراوي زيك يا صفية، راجل وشه عم يضحك وفضل يطبطب على راسي. فصلي تلت جلاليب ولعمتي كمان، وبعديها اشترى لينا البيه مداسات جديدة. وتعرفي إيه تاني يا صفية؟ دخلنا دكان الفول. ياه لو تشوفي الأبهة واحنا قاعدين على التربيزة ولا البوهات.

 عمتي بتقول: الفول دوا العيان والعدمان. ويا سلام على أقراص الطعمية السخنة والبدنجان، والرغفان إيه يا صفية مدورة وبيضا كأنها القمر. بعديها روحنا شربنا عصير قصب، شربني البيه كوز كبير لوحدي، ولما طلبت من الراجل تلج راح البيه ضاحك ومالي كفه وحطيلي في كوزي، كأن القصب بالتلج يا صفية نزل بقلبي وخلى شعري وقف من حلاوته. ضحكت؛ يحكي التفاصيل بشكل سحري مثله. يكمل: عقولك سر؟ البيه عطى عمتي جنيه بحاله، اتخرعت عمتي وقالتله: لو أقول لحد يفكهلي يقولولي من وين سرقاه يا معدومة، فكوهلي يا ولدي قروش.

 ضحك البيه وحب على رأسها وفكه ميت قرش، قعدت أعدهم خمسين مرة لحد ما عمتي قالتلي سيبهم ونام أحسن يضيعوا. تاني يوم الصبح كانت عمتي تريه عم تشرب من  «زيير» عم سمعان، سمعه البيه وهو عم يقولها: اغسلي يدك يا تريه لتوسخي  «الزيير» . غضب البيه ولقيناه جايب حنطور وعليه  «زيير» . بقى عندينا  «زيير» يا صفية. وكمان جاب حلتين وصحنين عم يلمعوا لمع. قالي أنجح في المدرسة وهو هيدفعلي مصاريف الجامعة.

لمعت عيناه وأكمل: عايز أبقى مهندز يا صفية. واجيب مرتبة قطن، ووبور بالجاز. رفعت حاجبي وقولت له: وتجيب سجاير كمان بدل الورق اللي بتلفه وبيكتم صدرك الخرع. خجل وقال: ربنا مش هيجيبلي المرتبة والوبور لو شربتها، هيزعل مني يا صفية ويخلي البيه ميصروفش عليا. صوح؟ قولت له: صح هيعذبك، ويبعد عنك لو مبقتش كويس يا عبده.

 

ضحكت من نفسي الصغيرة حينها، هل الله يبتعد عنا؟ هل تغضبه السيئات أم يريدها أن تكون الجسر للإنابة إليه، كحبيب قبل إله.

 

عاد سيل الذكريات يتسلل لعقلي بلذة كمخمور أو سكران. أتذكر المولد والغوازي كما كان أهل القرية يطلقون عليهن. كنا نتسلل أنا وعبد الودود والأولاد لنشاهد الرقص من فرج الخوص الذي يحيط المسرح الخشبي. يسرق عيني خلخال الراقصة الفضي الذي يرن. أسرع للبيت وأغلق غرفتي على نفسي. تدخل أمي فجأة لتجدني أرقص، ابتسم حين تراني وأطلب منها أن تشتري لي خلخالا فتنهرني، وتلسع يدها كفي الطري فيحمر ويظل يحرقني. تجحظ عينها وهي تحدجني بغضب وتشد أذني: مفيش بنت مؤدبة بترقص، والخلاخيل دي للغوازي، إنتِ فاهمة.

أكبر، أدرس الشريعة، أخفي حبي للرقص، وأخفي عن أمي أني اشتريت خلخالا فضيا ذو أجراس ترن كلما حركت قدمي.

تنعتني بالجنون حين أزور الأضرحة والأولياء، تحول رقصي أمامها لرقص مولوي، فتمد جانب فمها متقبلة رغما عنها شطحات روحي الولهى.

 

هل كانت تريه تغضب حين يرقص عبد الودود؟ هل كانت تنعته بالجنون حين يركض خلف موكب الرايات في ذكرى ميلاد قطب أو ولي. تزغرد تريه فرحة راجية أن تمسه بعضا من نفحات السادة.

 

عدت أنظر للسيجارة ناصعة البياض، يتأجج بداخلي هوس أن أشعلها؛ لأنظر لها وهي تفنى، عقلي يطيح بخيالي: افرميها وارميها في الزبالة فورا. روح مغامرة بداخلي تهمس بإغواء رغم يقينها أنني لن أفعل: دوقيها، مفيش ضرر من نفس واحد. لم يكن شيطانا يوسوس، ولا نفس تغوي، بل كان استمتاع بهذا الشعور العجيب الذي تمتزج به المشاعر الإنسانية بين ظاهر وباطن، بين سمو الروح، وبشرية الجسد، وسقطات النفس التي لولا زلاتها لهلكنا وجِيء بقوم آخرين. تركتها ترقد على طاولتي الصغيرة بجانب مسبحتي، وخلخالي، وأحمر شفاهي القاني. بين عقل ملجم بالأوامر والنواهي، وبين روح ولهى بالحب لن تضرها سيئات، ولن تنفعها حسنات.

 

أخرج من ذكرياتي على صوت عبد الودود: يا صفية هنزل اشتري سجاير، أمط شفاهي الملونة بأحمري القاني: سجاير بس يا باشمهندس؟ فيضحك مداعبا:  يا سلام.. سجاير وشيكولاته لأحلى صفصف.