«العَازِف» قصة قصيرة للكاتبة غادة صلاح

الكاتبة غادة صلاح
الكاتبة غادة صلاح


الجَوُّ خانقٌ، والأيام مع الحجر الصحي المنزلي بعد تفشي وباء كورونا في العالم مريرة ومرعبة ومخيفة.

كانت مدام سلمى تنتقل من غرفة لغرفة، تفتح اللاب توب مرة لتشغل نفسها بمشاهدة اليوتيوب، تفتح الهاتف وتمكث ساعتين أو أكثر على الفيس بوك أو الواتس، تطهو الكيك في الفرن، تعد الآيس كريم في البيت، تطهر الشقة بالديتول والكحول والكلور، تتحدث مع أطفالها، تتصل بأمها وصديقاتها، ورغم هذا التنوع كانت الحياة مع الحجر سجنا حقيقيا.

بعد العَصرِ بساعةٍ تقريبًا سَرى النسيم لطيفًا، وخرجت سلمى للشرفة، اقتربَت من سورها قليلا، ثم جلست على الكرسي البلاستيكي بعد رش الشرفة بالكلور والكحول الإثيلي، واستغرقت في أفكارها ومخاوفها على أمها وأطفالها ونفسها من وباء لعين تحول إلى جائحة كشفت ضعف العالم كله وجهله الكامل وعجزه عن التعامل مع فيروس غادر يحصد أرواح الكبار والصغار، دون أن يستطيع الطب وتكنولوجيا القرن الواحد والعشرين صد هجماته المميتة أو تحجيمه أو فهمه.

   الحَجْر حَوَّل حياة الفقراء إلى مأساة، مصانع كبيرة وشركات عملاقة سرحت موظفيها، وأصبح أمرا معتادا أن تطرق امرأة فقيرة أو رجل باب شقة مدام سلمى لطلب عشرة جنيهات لشراء كيس خبز وقطعة جبن أو كيس لبن، واشترك الوباء والبطالة والجوع في تحويل حياة البسطاء إلى جحيم.

   تنهدت سلمى وشكرت الله على نعمة الستر، عشرات الآلاف من الأسر صارت تبيت دون عشاء فعلا، ولم تعد تلك العبارة الشهيرة نكتة ساخرة من واقع الحياة الجديد مع كورونا، بل أصبحت واقعا مخيفا.

   جنات، الطفلة الصغيرة ذات الأعوام السبعة، تشاكس أمها وتتقافز مللا في أركان البيت، تخرج إلى الشرفة ثم تركض للداخل، تجذب الهاتف من يد أمها، وتناوشها وتلاطفها وتشد انتباهها بقوة، وكانت الأم تصرخ أحيانا في وجهها، ثم تضمها وتقبلها، فالكبار والأطفال قد هدم الوباء بهجة حياتهم وخنقهم كحالة الجو عند الظهيرة، وحر القاهرة الذي لا يطاق.

- سمعتي الصوت ده يا ماما؟

- صوت إيه يا حبيبة ماما؟!

- هس هس اسمعي كده.

   أصغت سلمى إلى الصوت، كان صوتا حزينا شجيا لآلة موسيقية من آلات النفخ يتصاعد للأعلى ويتردد صداه الجميل في الأرجاء.

   نهضت ونظرت إلى الشارع، كان هناك رجل يبدو من هيئته أنه تجاوز الثلاثين، يرتدي قميصًا أبيض وبنطالا أسود ويضع رابطة عنق حمراء صغيرة، ويمسك بيديه آلة ساكسفون ويترنم ويهتز وينفخ فيها فتصدر ألحانا شجية حزينة وصادقة.

   ظل العازف ينتقل من جانب الشارع الأيمن إلى الأيسر، يرفع وجهه ويحيي سكان العمارات على جانبي الشارع بيديه، ويشير للأطفال الواقفين في الشرفات، ينصتون إليه في دهشة وفرحة بهذا الحدث الغريب الذي أنساهم لعدة دقائق سجنهم الإجباري وعدوّهم الجديد الغادر.

   تأملته سلمى، رغم أناقته ووسامته، بدا حزينا منكسرا، ينفخ وسط الألحان الجميلة أساه، ورغم المسافة بين موقعها في شرفتها في الطابق الثاني وموقعه، لاحظت تعكر صفاء عينيه.

 

   أنهى لحنا وبدأ لحنا آخر، انتقل من أغنيات أم كلثوم ونجاة إلى عزيزة جلال "مستنياك يا روحي بشوق كل العشاق، مستنياك تعبت تعبت من الأشواق".

   لم تنتبه سلمى إلى أنها تُغنِّي معه بكل كيانها، وغمرت روحها حالة بين الفرح والحزن، تذكرت وحدتها بعد انفصالها، تذكرت أسوأ أيام حياتها التي عاشتها مع رجل بخيل وأناني وقاس، مر ببالها وجه حبيب صباها وهي طالبة، ابتسمت ابتسامة مشرقة، جذبتها جنات من عباءتها وسألتها: بتضحكي لمين يا مامي؟!

   كان العازف قد بدأ يسرع خطاه ويتسرب كشعاع يتلاشى عبر امتداد الشارع، وأخذ صوت العزف يبهت ويخفت شيئا فشيئا.

   جلست سلمى من جديد على الكرسي، ثم وقفت فجأة، دخلت إلى الشقة مسرعة، أخرجت ورقة مالية من حقيبة يدها، أعطتها لجنات وطلبت منها أن تلحق بالعازف وتعطيها له، وأخبرتها أنها ستتابعها من الشرفة.

نزلت جنات، نادت بصوتها الطفولي الحنون وهي تجري خلف العازف: "عمو يا عمو يا عموووو". توقف واستدار، أعطته الورقة، انحنى وقبل يدها الصغيرة، كانت الأمهات والفتيات والآباء والأولاد يشاهدون ذلك من شرفات بيوتهم.

   خلال ربع ساعة تقريبا كان أغلب أولاد المنطقة يحيطون بالعازف، ويقلدون جنات.

   لم يتمالك نفسه من الفرحة، جثا على ركبتيه، امتلأ جيب قميصه بالأوراق المالية الملونة، دمعت عيناه، وضع مبسم الساكسفون بين شفتيه، نفخ أوجاع روحه عبر المواسير النحاسية النابضة بالجمال، خرج اللحنُ حُرًّا عَنيدًا حَيًّا (وفي ليلة سَرَحت في اللي راح، دمعت وكترت الجراح، مبقاش بيساعك البراح، ولا يملا عينيك).

   كان مشهد التفاف الأطفال حول العازف جميلا ومتفردًا دافئًا، أخرجت سلمى هاتفها المحمول، وبدأت بثا مباشرا بالفيديو عبر صفحتها على فيس بوك، وبعد دقائق كانت كل كاميرات الهواتف في الشرفات تسجل لحظة طريفة ونادرة من لحظات الحياة.