«شهوة طفولة» قصة قصيرة للكاتب عبد النبى النديم

الكاتب عبد النبى النديم
الكاتب عبد النبى النديم


صباح قاسم .. باهت روتيني ملل.. كعادة كل صباح، يغالب النوم بشدة المسيطر على أوصاله، لم يأخذ كفايته من النوم، فمع آذان الفجر يجب أن يغادر مرقده، الذي آوى إليه بعد منتصف الليل بعد عمل يوم شاق، بعيون مغمضة يلقى نظرة حانية على أطفاله الثلاثة المتراصين على حصيرة، سنوات أعمارهم غضة طرية أكبرهم هالة ست سنوات، وأصغرهم هيام ثلاث سنوات يتوسطهم هاني خمس سنوات، يتدثرون ببطانية متهالكة تكاد تغطي أجسادهم الضعيفة.. أخذوا حيزا كبيرا من الصالة، لم يتبقى من مساحتها إلا طرقة ضيقة تؤدي إلى الحمام..

الابنتان تلحفوا بشقيقهم, أخذهم بين ذراعيه كأنه يزود عنهم شرد محدق، ينظر إليهم قاسم وهم يغطون في نومهم، يبتسمون في أحلامهم السعيدة، وكأنهم يعيشون حياة غير التي يعشونها بين أحضانهم، يفتحون أذرعه كأنهم يطيرون في سماء تتسع لأحلامهم.

شقة قاسم تقع في بدروم عمارة متهالك شبه آدمية, حجرة وصالة وحمام ضيق لا يتجاوز المتر المربع, والمطبخ جزء من الصالة، عبارة عن بوتاجاز فقط موديل قديم ثلاث شعلات، ظهرت آثاره على جدران الصالة بتراكم الدخان على الحوائط فتحولت إلى اللون الأسود، فى ركن الصالة المقابل لمدخل الحمام، علقت مطبقية خشب تحمل عدد قليل من الأطباق الألمنيوم تراكم عليها السواد من كثرة استعمالها في طهي وقلي الطعام، وأطباق بلاستيكية البعض مشروخ والبعض مكسورة أطرافه لكنها تفي بالغرض الذي خصصت له..

أسفل البوتاجاز توجد حلتان لطهى الطعام إعوجت أطرافها من كثرة سقوطها ومحاولة تعديلها..

وقف قاسم ينظر إلى أطفاله الذين يغطون في أحلامهم التي لم يستطيع تحقيقها، فآثر السلامة وهم بالمغادرة.. خشية أن يستيقظ أطفاله ويقع في فخ تطلعاتهم وطلباتهم إلى ما لذ وطاب من الحلوى المختلفة الألوان والأشكال وأنواع الشكولاتات التي تمنوها منه دائما بألوانها الشيقة التي تعكس لذة طعمها، بالمحل الذى يعمل به كعامل نظافة ..

أثير إذاعة القرآن الكريم عبر جهاز الردايو القديم القابع على رف خشبي خلف باب الشقة، يشير إلى دقات الساعة السادسة صباحاً, اتخذ قراره سريعاً بأن يقوم بأداء صلاة الصبح بالعمل بعد أن يقوم بتنظيف المحل, وهرباً من طلبات أطفاله المتكررة فى الحصول ولو على قطعة حلوى معتقدين أن والدهم صاحب المحل..

يسرع قاسم خلف عجلات الأتوبيس المتسارعة ليلحق به بلياقة لا تتناسب مع ما يحمله من هموم كالجبال، يقفز من الباب الخلفي.. يحشر نفسه بين الركاب المتراصين على السلم.. يراوغ معطياً ظهره للمحصل, عله يغض الطرف عنه، ويوفر ثمن التذكرة، يسمع صوته منادياً ..تذاكر اللى طلع ..لم يجد مفر ..يدس يده في جيبه يخرج خمس جنيهات معدنية ..يلقى بهم فى يد المحصل بحسرة، ولا ينتظر أن يأخذ التذكرة.. ولكن يد المحصل كانت أسرع إليه يمد يده إليه بالتذكرة..

سريعا ..يترك جسدة للتحرك ذاتيا مع سيل كتلة البشر بالأتوبيس، الكل ينظر إلى لا شيء، الجميع واجم تظهر علامات الإحباط على وجوههم، لا يبالون بزحمة الأتوبيس في شهر يونيو ورائحة العرق تزكم الأنوف، دون معترض من الركاب..

لا يبالي قاسم بتوابع الزحام في الأتوبيس، من عنف من راكب يسعى للمرور، وكتف من راكب غشيم كاد أن يسقطه أرضا، يستعجل الوقت ليخرج من هذا الأتوبيس بسلام، مناديا على سائق الأتوبيس بأعلى صوته «خف رجلك والنبي يا أسطى» ..إتاخرنا على أشغالنا، تحين لحظة الإفراج من زحام الأتوبيس، يقف على الباب ممسكا بالعمود الحديدي، ليلفظه رحم الأتوبيس على المحطة وهو يبطئ من سرعته، ليتفادي طوفان الصاعدين والمغادريين من الأتوبيس ..يقفز قاسم بسرعة من الأتوبيس، يهم بجدية إلى محل الحلويات الشرقية الذي يعمل به، المزين بشبكة رائعة من الأنوار التي تبهر الماريين وتلفت الإنظار إليه..

يصل إلى باب المحل المغلق, يقف بجوار الباب ينظر يمينا ويسار, يحمد الله على عدم التأخير ووصوله مبكراً قبل صاحب المحل، الذي يفتش عنه بين المارة المقلبين بالشارع، يظهر أخيرا عند الناصية للشارع المتقاطع بشارع المحل يخرج من بين آسراب البشر الماريين..

يسرع قاسم إليه بإهتمام وحماس ملقياً عليه تحية الصباح..

يلتقط مفاتيح المحل من يد صاحبه, يسرع إلى الباب مسمياً «بسم الله الرحمن الرحيم».. داعياً بالبركة والرزق للحج مصطفى صاحب المحل قاصدا أن يسمعه دعائه..

يزيح الباب الصاج لأعلى، يفسح الطريق للحج مصطفى للدخول أولاً.. يترك قاسم صاحب المحل على باب مكتبه في آخر المحل بعد ثلاجات العرض الداخلية, متجها إلى الحمام ليبدأ عمله قبل أن يهل العاملين والزبائن على المحل.

يحدث قاسم نفسه :«الحمد لله أني نظفت المحل آخر الليل, سهلت النظافة عليا النهاردة» ..دقائق قليلة وانتهى من عمله مع دخول أول العاملين بالمحل, يلقي تحية الصباح على صاحب المحل, يتجه إلى قاسم.. يمد يده بعشرة جنيهات, قائلاً: «هاتلنا فطار يا قاسم بسرعة قبل الزباين ما تهل علينا» يلتفت إلى صاحب المحل هتفطر معانا يا حج؟

يشير إليه الحاج راضى عثمان من خلف الجرنال الذي يقرأه بالإيجاب..

يمر اليوم بطيئا ..على الرغم من أن المحل لا يفرغ من الزبائن على مدار الساعة، وقاسم يجلس بجوار باب المحل، بجواره المقشة والجاروف، تحسبا لأي طارئ يخل بنظافة المحل، يغالب النوم على كرسيه، ولكن في الكثير من الحالات النوم يتغلب عليه.. 

 

***

 

نظرات الفرح والبهجة ملأت عيون أطفال قاسم.. يقفون أمام ثلاجات العرض بالمحل، وأمهم تقضم أظافرها، وبعيون زائغة تنتظر ما لا يحمد عقباه من زوجها قاسم، فالأطفال نسوا البحث عن والدهم الذي غلبه النوم ساندا رأسه إلى الجدار، بعد أن شغلتهم أنواع الحلويات المعروضة ببترينات المحل، يصرخون ببهجة.. تنهش عيونهم مختلف أنواع الحلوى المختلفة الأنواع والأشكال, يتقاسمونها فيما بينهم, يتناوبون النظر على كل أنواع التورتات والجاتوهات والحلويات الشرقية والغربية, يزاحمون زبائن المحل, يصرخون محذرين إياهم.. دا محل بابا.. ابعدوا عن التورتة.. الحلاوة كلها بتاعتنا..

ضحكات الزبائن.. ومداعباتهم لأطفال قاسم أثارت انتباهه وأيقظته من غفوته هناك بعيداً عن البيع.. بجوار عتبة المحل نائماً.. يضم ركبتيه إلى صدره, يفوق من غفوته مع الدنيا وأحلامه على صرخات الفرح من أطفاله مع زبائن المحل ..يقف مذهولاً وعلامات الهلع كست وجهه، عند رؤيته لأطفاله تنازعته احتمالات كثيرة, السيئة منها غلبت فى تفكيره عن الاحتمالات الحسنة..

تقع أنظار أطفاله عليه ..صرخات طفوليه تخرج من حناجرهم فرحة برؤية والدهم –  صاحب محل الحلويات فى تفكيرهم - ينادون عليه «بابا احنا هنا .. بابا احنا هنا»..

دارت الدنيا بقاسم وقف صامتا أمام تطلعات الصغار.. يشيرون بأيديهم الناعمة إلى ما يشتهون..

يطلبون منه الحصول على كل الأنواع من الحلوى والشكولاتات..

نظرة عتاب شديدة يملؤها حزن الدنيا والألم يعتصر قلبه لزوجته على ما اقترفته من خطيئة بإحضار أطفاله إليه فى محل عمله..

تمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه ولا يحطم الحلم بقلوبهم الصغيرة..

بنوا أحلاما من كلمة صغيرة خرجت من زوجته نعيمة لأطفاله وهى تداعبهم.. بابا عنده محل حلويات كبير أوى, اللي هيسمع الكلام بابا هياخده معاه ويجبله حلويات كتيرة أوى وياكل منها لحد ما يشبع..

يدفن وجهه بين راحتيه..تمنى لو ينشق الأسفلت ويدفن جسده بأكمله داخله..

فقد قاسم طعم الفرحة..

حاصرته الكآبة وضيق ذات يده..

ملأت الغصة حلقه.. لم يجد مفر من لهفة أطفاله عليه, إلا أن يفتح ذراعيه يستقبلهم فيه..

لا ليعطيهم من الحنان الذى يملأ كيانه لهم ..بل ليبعد أنظارهم عن ثلاجات عرض الحلويات فى واجهة المحل, ليصبح جسده حائط يحول بين أطفاله وبين ما يتملكهم من شهوات ..

ينظر يمينا ويسارا, يرقب بطرف عينه صاحب المحل بالداخل فى مكتبه الزجاجى، خشية أن يرى أطفاله معه فى المحل..

يفوق من صرخات فرحة أطفاله برؤيته في محل الحلويات..

تشتت أفكاره على صوت طفلته الكبيرة التى لم تتجاوز ذات الست سنوات .. بابا هو المحل دا كله بتاعنا؟؟؟

يلملم شتات أطفاله..

يجر أبصارهم بعيداً عن المحل..

يحاول أن يبنى جداراً أعلى بينهم وبين أحلامهم..

وشهوة طفولتهم..