د.مصطفى عيسى يكتب: خارطة للوعى بالأشياء.. قراءة في تجربة مهاب عبد الغفار

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

هل يقوم الفعل الفنى على فرضية ما نقول: ليس ثمة شك فى ذلك، ومن ثم قد تتذرع الإجابة عن هذا السؤال حسابات ذهنية، لتعتنى فى الوقت نفسه بوجود الضدين: الذهن والوجدان. من طريق آخر، ليس ثمة خلاف على فرضية تؤكد على علاقة الفن بالحياة، أو هكذا يفعل من يحمل رؤية جمالية تستبطن أغواراً مجهولة فى الأماكن والأشياء من حوله. وربما كلنا مصابون بشيء من الفتنة حينما نقرب من فهم الفن، أو التشيع لحواذيته داخلنا.

فما يحدث يقربنا من طبيعة الأماكن التى تستولى على مشاعرنا ولا نملك منها فكاكاً. ذلك للأماكن خرائطها الخاصة. إنه نوع من الاستيلاء والاحتواء الذى نخضع له عن حب، وكثير من اللذة.

اقرأ أيضاً| محمد شاهين يكتب: سعد زغلول يكتب لصديقه ولفرد بلنت

ما بين فتنتين تمضى تجربة مهاب عبد الغفار، من حيث اكتشف شغفه بفضاءات مختلفة، ولدتها لديه نظرة ده سانت اكزوبرى فى روايته "أرض البشر"، وقد اغتنى بروح المتأمل فى الموت. ما بين الأول والثانى قرابة قرن حفل بسياقات ومقاطع حياة، بيد أن استلهام الأول للثانى جاء محتفياً بخرائطه ليؤكد كلا الفضائين على تناص بين الفنان والروائي، بالأحرى بين الروائى والرسام، وبظنى أن مشاغبات مهاب استوعبت جدياً رؤية من يبحث عن لحظة فارقة بين الحياة والموت.

 

ولكن هل يبحث مهاب عن لحظة مثل تلك التى لم يتنصل منها اكزوبرى؟ ربما يملك الرسام حصته الكاملة فى إجابة لن تكتمل، كونه لا يزال ينقب فى حياة تختلط وجوهها وتتشابك،وعن كيفية أن تغدو اللوحة وسيلة ناجعة فى استرساله والقبض على ما يختبيء فى طياتها.

وعادة يُساق مهاب أمام مسطح أبيض إلى مواجهة من نفسه، وحينئذ يبدو قانعاً باستسلامه لرهافة اللون أو عنفه، وإنْ بقيت لديه طاقة لتفريغ صدمة مجهولة من جراء هروب اللحظة من بين يديه. يبقى فى الأمر حساسية يملكها من يتفهم أنه بمثابة استسلام خارج أية حسابات، ولأنها شكل مُبهم لما ينطق به هذا الفنان. اعتاد مهاب على فعل ما يحلو له، وسواء كان شاعراً أم فناناً تشيكيلياً أو ناقداً، فهو يبحث عن ملامحه فى كل هذا. إنها ممارسة تعينه على التوقف ومعاودة البحث فيما يفعل، وعلينا حينئذ أن نلمح تميزه المُشبع بنرجسية لا تزال مُحببة له. ومن منا لا يعتقد فى نرجسيته؟

لهذا الفنان طاقة تمد أطيافها فى غير جهة وحيدة، وبظنى أنه مصور اعتقد كثيراً فى أهمية اللون، ما جعله يرفد خبرته الأكاديمية فى الطبعة الفنية، بما يتصل ببالتة مصور يهوى التجريب. وكأنه يستنطقها إجابات عن ضمائر ألوانها التى لا تتوارى أمامه مثلما يزاوجها أحياناً بما يرغب من خامات مختلفة مُتتبعاً سيرة من سبقوه إلى تلك الجمالية.

ورغماً عن ذلك فهو يقع بين ضفتى رغبته وفق تعبير يسمو بتجربته، ثمة إنسان داخله لا يفتأ يبحث فى كيفية تجديد تعريفات بعينها، تختص بنوعه، مثلما تختص بتطوير ملامحه، ووعيه. وباعتبارها ضرورة، تتكاثف داخلها الصور والنتائج، درج مهاب على التعايش مع حالة تجمع بين اللعب وحديث النفس، حتى أن يبدو مثل طفل يهمس لدميته بكلمات يفهمها وحده، وغالباً هو يفعل بحافز من فهمه لفرويد، أو اقترابه من فلسفات نيتشه وباشلار وبارت وغيرهم ممن طرحوا آرءهم فى الفن، كفعل مُتعدد الأبعاد. بظنى أن فعله يتمتع بجزء غريزى يبدو أحمق فى توغله، وبريئاً فى استغلال المعرفة لإدراكه حدود أهميتها، له، كفنان. وحينئذ لن يكون له سوى بصمة تدله على أماكن عائلية، يستظل بها أو يهرب منها.

واقع الحال أن هذا الفنان يطيل النظر إلى مفرداته، يتحسسها عن قرب، ليتصل بها قبل أن يودعها أحد أسراره، وهى كثيرة. ضمناً، نرى أن مادة الأنثى بقيت بحوذته مثل شيء عالق بحياته، لم يرغب بعد فى التخلص منه، فلا يفتأ يهاتفها عبر خطاب مختلف فى أبجديته. بيد أنها أنثى لا تنفرد بوجود مارق كونها تتذرع بخلق علاقة مع نصف الحياة، وما يتمثل فى ذكر، ماكر، ومُستسلم للحزن. أعنى هنا الفرق بين الجندر والجنس، إذ يُرد إلى الثانى ما نتفهمه فى أهمية الجسد، باعتباره باباً ونافذة ومساحة لافتراش الذكريات.

وعلى طريقته يرغب مهاب عبد الغفار فى حوار يجمع الأجساد بالحيرة والتوتر، وبكم من الأسئلة التى بوسعها استقطاب مفردات لا تمتثل له سوى فى الحياة والحلم. ففى الحيز نقع على قوارب، وطيور، وبقايا علامات من حضارات ولت، ودائماً تهيم فى مادة سائلة عنوانها لونى الأحمر والأزرق وربما الأبيض الذى يقارب فى لغته إحساس فنانى شرق آسيا. الوجه موطن التعبيرات الحية الملاصقة للحياة، وهو ماكر ومُقنَّع تماماً مثل براءته التى تذوب فى لحظة صفاء. يدرك مهاب تلك الحيل جيداً، كونه أحد الوجوه العابرة فى الحياة، فيما يفكر فى كيفية صياغة تعبيرات تبرر اختلاج وجدانه، أو وقوع عقله فى فراغ كثيف.

المؤكد أن مهاب لم يصنع مواطن حميمة لعلاقة الأنثى بالذكر، أى المرأة بالرجل، وإنما بات الفضاء المتسع فى تجريديته أكثر امتلاءً  واتساقاً مع رمزية تلك العلاقة من حيث اتسمت ببعد روحانى أكثر من ميلها للتعبير عن حالات شبقية.

واستولد هذا الفهم شكلاً يبعد جذرياً عن المعهود فى سلالة تلك المثنوية وكأنما بالفنان رغب فى تأطير تلك الصلة بما يمكن استعادته من منظور غير جنسي. ليس إفراطاً فى المثالية وإنما لأجل أن يصنع التأطير الأكثر قرباً من عقل المرء.

من ناحية أخرى، ثمة حضور أشوري، يتجانس مع المصرى القديم على نحو يتسق وتحويرات منسوبة للصورى بحسب اختلاسه من الواقع، مثلما يفعل فى حيوانات تقع بين شطرى الأليف منها والبري، لأجل أن نأنس لها. مثل هذا التناقض يعزز أرضية الصراع، بين ما فات وما سيأتي، المعلوم والمُبهم، المرئى واللامرئي. أو هكذا تمضى الأشياء فى مثنوية ما يجذبه إلى حلقة الموت.

وفى واحدة منها تشهد حدة قرون الثور على نوع من التحدى وامتلاك قوة تستدعيه دائماً لصراع مع مجهول. ومن جانبنا ربما نظنه ضمير الفنان الذى تسكنه هواجس يود لو تعايش معها أو أقدم على اقتحامها والسيطرة عليها. يبتدع هذا الفهم دائرة لرموز غير مُحصّنة تماماً، ففى الرمز ما ندعى كشفه على خبايا نتقاسمها معه أو يتقاسمها معنا رغبة فى التماس أمان، أو لحظة لا تنكر وجوده باعتباره جسداً حياً يتجول وينتج وغير قادر على التخلص من اغترابه.

أيضاً، وبكلام يحدد الملامح، لم يرغب مهاب عبد الغفار فى مخالفة قناعته كمصور، ما دعاه إلى تغليف أجساده بما يتناسب مع حفريات قديمة، مادية ونفسية. يمثل هذا تاريخاً محمولاً على مقاطع حياته، وعلى تجربته الفنية. وبحسب لغة ميشيل فوكو أراها أقرب لما عناه فى كتابه "حفريات المعرفة"، ذلك لأن تجوال مهاب لابد وأن يزيده من معرفته بحقيقة الأشياء. ولعله يفعل دون أن يتخلى عن لزومية المصور فى تجربته الجمالية. إنه يذهب صوب تفريغات حسية ورؤى جمالية عبرجمعه للصورى واللاصورى فى حيزٍ واحد، يحافظ فيه على خلق بيئة مناسبة لمفرداته الهائمة فى فضاءات ملونة بالقلق والغربة. ومن حيث يتباين حضورالأخيرة من فعلٍ إلى فعلٍ، ومن لوحة إلى أخرى، فإن كل تقصى لها يثبت أن استثماره كمصورٍ لهذا التباين سوف يثمر عن شيء خاص به.

لعلنا نستدرك بإجابة بيكاسو فيما عناه من تفرقة بين البحث واللقية. لذلك لم يبحث مهاب سوى فيماوراء الصورة من معرفة،ولأجل أن تتوطن الجمالية بحسب ما يرغب. يعينه حدسه على تقنين من هذا الصنف ووعيه بأن للحياة وجوهاً كثيرة تستلزم طرح الأسئلة والبحث عن إجابات، بالنسبة له قد يظن وأبداً أن إجاباته تتأتى عبر حوارات الشاعر والمصور الكامن داخله، وإنْ استحوذت على لقية تتماثل مع تخييلاته. فى الأخير، هو احتمال لن يجانبه الصواب تأسيساً على مُشاغبة تخيلات لا تنتهي.

وهكذا يرحب مهاب عبد الغفار بما يقع فوق سطح لوحته، فيما يشبه النائم الذى غالباً يستيقظ على شوارد حلم، بينما هى مُستقاة من مفردات حياة ومقاطع مسرودة دون مهارة تُذكَر، منه. ولِمَ لا؟ ألا تسكنه الأحلام مثل سائر البشر؟ ذلك لأننى وبيقين أتصور أنه طفق يخلط مادته الملونة ببقايا من هذا الصنف دون أن يتخلى عن صنعته فى اللوحة، أو مهارته فى الحكى والاختزال، لصالح تهويمات لن تخلو من معنى، حتى أنه فى "أرض البشر" بات فضاؤه مميزاً بقدرته على الاحتواء. فى الأخير بوسع هذا المصور أن يتمطى ليتصل بغموض الشاعر الذى يستلذ صياغات مُبهمه. فثمة غموض مُحبب قادر على اعتلاء ضفة النهر من حيث تسرى المياه أسفل قدميه، فلا يلبث ينتعش من حيث يستشعر دفئها.

يكشف البحث فى لغة التصوير، عن اللون باعتباره محكى مهماً فى سياق التعبير وفك شفرات الأشكال، ومثله المفرادت وما يتخلل بنيتها من تنوع يلوذ بتقنية عالية، إذ ينبنى الأول على تباين بين سخونة اللون وبرودته، وكأنما يقيس الحياة عبر نزعة التضاد الكامن فيها، على حين تغرس الثانية جذوراً تصلح لإنبات المعانى دون ملل.

وواقع الحال فإن بدى ثمة ارتباك وفوضى، أمكن إحالتهما إلى نوع من ثرثرة مُحكمة البناء، كونها أصوات مختلطة نسمعها ولا نتفهم تفاصيلها، ونحن على يقين بغزواتها المُتكررة لنا، فى قسوة. ولعلى عنيت مُقاربة بين تخييلات مهاب عبد الغفار وبين ما تكشف عنه تلك المفردات على بساطتها، إذ ينطق كل منها بجملة، دون أن تبعد عن هدف بعينه.

أتوقع أن إشاراتها تعمل وفق سياق لتبدو القوارب والأجساد والثيران السوداء والأيادى المُلوّحة والوجوه المعلقة فى فراغ، بمثابة منظومة تبحث فى كيفية ترتيب الفوضى وإنْ بدا كل ترحيب بالارتباك بمثابة فعل ينجز ما توارى فى بعض تفاصيل الحياة.

رغماً عن ذلك، ففى اعتقاده أن للعمل الفنى مرجعية ثقافية، تمثل ضرورة، تراوح وضعية العام والخاص، وبدونها يسقط الفن فى مساحة شائهة فاقدة الملامح. ولهذا كان اجتهاده فى صياغة رموز تنشد القرب من فكرة تفكيك الصورة وفكرتها لأجل إعادة بناء يتسق مع طبيعة الراهن فى الحياة بحسب وجهة نظره، ليبقى نجاحه فى صنعته أو فشله مسألة يقبل بنقاشها والانتقال بها من مساحة التشكيل إلى حيث تتعلق ببعد ثقافى يعتقد فيه جدياً. لذلك ظل استعادة بقايا رموز من عوالم وحضارات سبقت مثل المصرية القديمة والآشورية بمثابة اجتهادات تصل الحاضر بالماضى على نحو لا يرغب فى جعله مقياساً لصورة تجنح باتجاه التغريب وإنما لأجل اصطناع يؤكد حضورها الثقافى بالأساس.

وبحسب عنونته لهذا العرض فإن "أرض البشر" تجربة فى صورة تتفجر بملامح سوسيولوجية عميقة الأثر، مثلما تبدو فى تعالقاتها أغواراً لأبعاد أنثربولوجية ترتد إليه فى طبيعة حفرية لتسكن فوق قماشة اللوحة.

وفيما يبقى رابط مهم يدركه كفنان إذ يتمثل فى استغراقاته المعرفية. ومن حيث يرتهن فى تجاوره مع اهتمامات الشاعر والروائى والناقد، فى حسبة تجعل من اختلاط الأنساب والأشكال وسيلة ناجعة للتميز الذى يبحث عنه المصور.

أخيراً، يصح أن أتساءل عن مُبتغى مهاب من اعتماده سيرة ذاتية نافذة لتجربة فنية خاصة به: ولعلى وقعت على سبب أشرت إليه من قبل، لا يفتأ يترسم علاقة غير مباشرة بينه وبين لوحة ينجزها صاحبها فى مرسمه، ذلك لأن أكزوبري ويؤكد فى نصه الأدبي: أن لا شيء، أبداً، فى الواقع، يحل محل الرفيق المفقود. لا نستطيع أن نخلق قدامى الرفاق. لا شيء يوازى كنز تلك الذكريات المشتركة، وتلك الساعات العسيرة التى عشناها معاً، بما فيها من الخلافات، والمصالحات، ونزوات القلب. مثل تلك الصداقات لا تُبنَى من جديد. وهل نرتجى لو غرسنا سنديانة، أن نستظل أوراقها بعد أمد قصير؟ هكذا يتحدث الروائى الذى طفق ينظر للأرض من طائرته أثناء مهمة نقله لرسائل يستوطنون جغرافيات مختلفة.

وأتوقف هنا عن حالة اغتراب طيار وجدت قبولاً لدى مصور،ليبقى بظنى أن ما يدعم علاقة الكاتب بالرسام هى تلك الروح المُختبئة فى تضاريس الحياة، ومن حيث ينبش كل منهما فيها يكون مُرغماً على إعادة بناء تلك التفاصيل وفق رغبته، وما تأتى به تخييلاته من نزق أو حكم لا تفارقه سوى لبعض وقت غير منسوخ.  

إن "أرض البشر" قد تصلح لتعليل كافة النزوات، ولهذا وجد مهاب عبد الغفار، بعض ما يبحث عنه فى رواية تصل بين الكلمة والصورة، على نحو مغرٍ. وأظن أن كفاءة تلك العلاقة تشير إلى وعى هذا الفنان وثقافته، من حيث تؤدى جميعها إلى ترتيب رؤية جمالية أحسبها نقطة التقاء لم تكن فى الحسبان ذات لحظة، ولكنها جاءت، وأنارت.