«القرية» قصة قصيرة للدكتور صلاح البسيوني

الدكتور صلاح البسيوني
الدكتور صلاح البسيوني

.. الصمت يسود أرجاء القرية الساكنة على ضفاف النيل .. مازالت أطلال الليل تتمسك بأوشاح النهار التى بدأت فى الانتشار .. وخلقت بذلك خليطاً رماديا .

زقزقة العصافير تشق السكون وصياح الديكة يعلو بين الحين والآخر .. أشباح تتحرك بين البيوت تنتقل بين دروب القرية فى صمت لا تسمع لها سوى حفيف الثياب .. أبواب تفتح فى صرير مكتوم .. همس بين القادم والواقف بالباب الذي يترك داره وينضم للركب الصامت .. العدد يتزايد مع كل دقة باب .

 

شيء غير عادى قد حدث .. النهار ينشر ثوبه الأبيض على القرية ولا تزال الأشباح فى تحركها وتكاثرها متشحة بالثياب السوداء وكأن الليل لا يزال يغشاها .. همسة تعلو متسائلة .. حد قام بالاتصالات اللازمة؟ يجيبه صوت بنحيب مكتوم عملنا كل الاتصالات .. تساءل الصوت الهامس مرة أخرى .. حد بلغ الشيخ علشان يستعد ويجهز اللازم .

 

الصوت الباكي .. كل شئ جاهز والكل موجود ولازم نسرع فى الدفن يابا الحاج دا إكرام الميت دفنه .. يلتفت الصوت الهامس يميناً ليسأل الشاب المجاور .. عملت اتصالك بعمال الفراشة .. يجيبه صوت .. العربية جاية فى الطريق وقبل عودتنا من المدافن سيكون الصوان تم نصبه .

يتوافد الأشباح فى سوادهم .. تتعانق فى صمت باكى .. المصاب أليم والصمت أكثر ألماً.. يعلو صراخ امرأة قادمة .. يهرول ناحيتها بعض الرجال .. حرام عليكى .. والله حرام .. تسكت المرأة وهى تحتضن وتتشبث بإحدى السيدات ويعلو النحيب والبكاء من الجميع .

يظهر موكب الجنازة القادم من بعيد خلف سحابة من التراب المتناثر من الأقدام الزاحفة .. لا تكاد تتبين الوجوه من فرط  شحوبها واختلاط التراب بالدموع .. يرتفع نحيب النساء مختلطاً بصوت الرجال لا إله إلا الله محمد رسول الله .. يصل الجثمان الى المسجد .

 

يعلو آذان الظهر .. تعلن كلمة الله الدائمة فى الكون .. تقام صلاة الظهر .. ثم تتلوها صلاة الجنازة على جثمان الفقيدة الراحلة .. والدعاء أن يتغمدها الله برحمته .. وأن ينير قبرها .. ويسكنها فسيح جناته .. تحملها الأعناق .

يتبادل الرجال حمل جثمانها .. فهو شرف وثواب يتسابق الكل في الحصول عليه .. ليصل الركب إلى مقره الأخير .. يفتح باب صغير في قبر ينخفض عن الأرض قليلا .. يدخل رجل يستقبل الجثمان مع آخر .. رجل يتلو كلمات عن ملك الموت .. عن الحساب .. عن البعث .. عن الجنة والنار .. عن الله الواحد والدين الواحد وآخر الأنبياء .. عن  الموت وما بعد الموت .. عن الدار الآخرة .. يتوقف الحديث .. تنتهي الرحلة أو تبدأ .

يصطف الأهل لتقبل العزاء من المشاركين .. أصوات تهمهم .. الله يرحمها ويرحم أبوها كان راجل ولا كل الرجالة .. يمتلئ الصوان بالقادمين من القرى المجاورة .. بعد سماع السيارات التى تجوب أرجائها معلنة نبأ الوفاة .. والحركة بين قادم وراحل .. همساتهم لا تتبينها وإن كانت لا تزيد عن التراحم .. وشكر الله  سعيكم .. الى أن تبدأ الحركة فى التناقص .. والقرية في التثاقب .. وظلال الليل تختلط بالسواد الذى يلف أهلها .. والمرحومة قد بدأت رحلتها فى عالم آخر لا يعلمه إلا الله .

ولا تزال كلمات الله يرحمها .. ويرحم أبوها .. وشكر الله سعيكم .