أحمد الخميسى يكتب .. نافذة

أبداع
أبداع

أقلق فى الفجر، ذلك أن النوم يضطرب فى مثل سنى. أفتح عينى. أسمع صوت طرف قدمى وهى تزيح الغطاء وترفعه، صوتا خافتا كأنه تنهد. أنهض. أتخبط فى طريقى إلى الحمام وأسمع وقع خطواتى فى فراغ البيت وسكونه. أنصت إلى خرير المياه من صنبور الماء بينما أغسل وجهى. أمضى إلى المطبخ.

أقف أمام البوتجاز مصغيا إلى هسيس الماء فى الإبريق على النار. أسير إلى صالة البيت حاملا قدح الشاى فى يدى. أجلس وحدى إلى المنضدة. لا يكسر الصمت سوى رنين الملعقة بين جنبات القدح الزجاجى. أتطلع إلى الفراغ أتسمع صوت الذكريات. لم تعد لدىَّ أحلام، وحدها الذكريات. 

فى الساعة الثامنة تقريبا تطفو من الشارع سحابة أصوات. زقزقة أطفال صغار لا أراهم، لكنى أعلم أنهم يتجمعون الآن فى حلقات أمام بوابة المدرسة قرب بيتى. تسبح الزقزقة المتكسرة عبر نافذة الصالة نحوى. تحوم حول رأسى بخفة، تقطر إلى قرارة شعورى. صغار فى أوائل العمر، يزعقون، يقذفون بعضهم البعض بحقائبهم الصغيرة، يهرولون، يشد الأولاد البنات من شعورهن، فتطاردهن البنات بالحجارة صارخات، ضاحكات. فرحة بيضاء، سرور عارم فى صميم اللحم والعظام بأنهم أحياء، وهم الآن يختبرون وجودهم الحى، يلمسونه بالوثب والصياح. أتخيلهم داخل الفصول، يتظاهرون بالإنصات والاهتمام بما يقال، أتخيلهم فى ما بعد أطباء ومهندسين ومحامين، فيغمرنى تفاؤل برقة الورد يحتضن ما ذبل من الذكريات والسنوات، وأشواق مبعثرة مرتجفة الأطراف تقاوم لكى تبقى حية. يخطر لى أن الحياة لا تشتعل ولا تفرح إلا بحضور المرأة، عندما تكون محبا ومحبوبا، لكنك لا تدرى متى يكون ذلك، مثلما لا تدرى متى يهطل المطر، اليوم أم غدا؟ فى الفجر وأنت نائم أم بالنهار، فلا يبقى لك إلا شمس وحدة حارقة، وقمر بارد من وحشة رصينة. أعتصر حياتى فى قبضتى مثل نواة صغيرة، فلا ينز مغزاها، ولا تسيل بالمعنى، تبقى نواة صلبة تحتاج إلى تفسير. 

فى العصر أقعد أمام التليفزيون، أتلفت من وقت لآخر إلى هاتفى، لا أحد يتصل. لا أحد يدق جرس الباب. وشيئا فشيئا تعتم الصالة من الغروب الهادى. أعد لقمة لنفسى وآكل كأننى أؤدى واجبا نحو الحياة. وما إن أفرغ من الطعام حتى يتناهى إلىَّ عويل الكلاب التى تتجمع أسفل البيت، تقف، رؤوسها مرفوعة، ذيولها عالية، نظراتها إلى الأمام، تستمد الشعور بقوتها من وحدتها، ثم تعوى معا بتوسل يائس وغضب مر حانق، بعد أن جاعت المدينة فخلت أكياس القمامة من بقايا الطعام واللحوم، فلم أعد أسمع سوى نشيد الجوع يخترق أذنى هابطا قرارة شعورى مستقرا بشعور قاتم. أنهض من مقعدى، قلقا، حائرا، لا أجد لنفسى مكانا. أروح وأجىء فى الصالة. لا أدرى ماذا أفعل فى ذلك النشيد الوحشى المهتاج. أرقد فى نهاية يومى، محاصرا بين اليأس والأمل، وما بين زقزقة الصباح وعواء المساء ألملم عزلتى فى وحدتى. أحاول أن أنعس، أن أسمع ولو فى الحلم صوتا آخر، فأكلمه طويلا، أبوح له بكل ما فى نفسى إلى أن تعرف روحى السكينة فأنام بعمق لا يقض مضجعى يأس من عتمة أو أمل فى الفجر.

نقلا عن عدد أخبار الأدب بتاريخ 14/5/2023

اقرأ أيضًا : فيلم «الصف الأخير» في دور السينما بالخليج يوم 18 مايو